الرياض وطهران: سيادة منطق السلام على منطق الحرب في معنى انتصار إيران وهزيمة السعودية
يجمع المراقبون في الغرب والشرق على أن الإتفاق المبدئي حول الملف النووي الإيراني مع مجموعة (1+5) هو انتصار تاريخي واستراتيجي كبير لإيران وحلفائها في محور المقاومة، وهو إنتصار كذلك لأمريكا وحلفائها الأوربيين الذين إختاروا منطق البراغماتية وتغليب لغة المصالح على لغة التآمر وأسلوب المقامرة، لكنه في نفس الوقت هزيمة قاسية بطعم المرارة للسعودية وإسرائيل الخاسرين الكبيرين في المنطقة.. بمعنى، أن ما حصل في جنيف، هو انتصار لمنطقة القانون والأخلاق على منطق الجهل والإرهاب، وبمعنى أكثر لباقة، هو إنتصار لمنطق الدبلوماسية والحلول السياسية السلمية، وهزيمة لمنطق التطرف والقوة القائم على الحروب والعدوان.
بقلم أحمد الشرقاوي/ كاتب مصري
الإتفاق رعاية إلهية لإرادة شعبية..
في رسالة التهنئة التي وجهها لقائد الثورة الاسلامية والشعب الايراني، بمناسبة المكتسبات الحاسمة التي تحققت في الاتفاق المبدئي بين ايران ومجموعة 1+5، قال الرئيس ‘حسين روحاني’: “إن النجاح النووي ثمرة الرعاية الالهية وتوجيهات القائد ودعم الشعب”، وهي ذات المعاني التي ركز عليها الإمام ‘خامنئي’ في رده على رسالة ‘روحاني’.. فماذا يعني مثل هذا الكلام؟…
هذا معناه، أن إيران دولة إسلامية عقلانية وحداثية تتصرف بمنطق الوسطية والإعتدال البناء، وتعمل من خلال رؤية ذات بعدين: بعد دنيوي بنظرة آنية وأخرى مستقبلية، يهتم بشؤون الناس ومصالحهم ويسعى إلى تحقيق الأمن وإقامة العدل وتوفير حد أدنى من الرفاهية للمواطنين في الحياة الدنيا.. وبعد أخروي غيبي، يعمل على بناء المجتمع المؤمن القوي انطلاقا من منظومة ‘مكارم الأخلاق’ التي وضعها الرسول الأعظم (ص) لأمته وطورها الإمام ‘علي’ (ع) فيما أصبح يعرف عند الشيعة بـ”الفلسفة النبوية”، انطلاقا من حديث شريف روي عن النبي (ص) يقول فيه: (أنا مدينة العلم وعلي بابها).
النموذج الإسلامي بين إيران و السعودية..
التركيز على مفهوم “الرعاية الإلهية” من قبل أعلى سلطة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يحمل دلالات كبيرة ذات بعد روحي إيماني وشرعي، بما تعنيه “الشريعة” من عدل وحكمة ورحمة تؤمن مصالح العباد في المعاش وتضمن لهم الخلاص في المعاد.. هذه ليست من طبيعة “الدولة الدينية” كما يحلو للبعض تسميتها قياسا بالتجربة الكنسية في العصر الوسيط بأوربا، إذ لا مجال للمقارنة مع وجود الفارق، لأنه بالنسبة للجمهورية الإيرانية الإسلامية الأمر يتعلق بـ”دولة مدنية بامتياز لكن بمرجعية دينية عليا تراقب العمل السياسي وتخضعه لميزان الشريعة، بحيث تسمو الثوابت الدينية والمبادىء الأخلاقية على الإكراهات السياسية الظرفية.وحيث أن الأمر كذلك، فلا وجود لتعارض بين الدين والسياسة في النموذج الإيراني، لأن الدين لا يتدخل في الشأن السياسي إلا لجهة تعديل الخلل إن وجد أو تصويب المسار في حال دعت الضرورة ذلك، وبذلك تعمل الدولة بمرونة ونجاعة من خلال مؤسسات قوية ومستقلة عن بعضها البعض، بتكامل في عملها، وتنسيق في سياساتها وفق منهج البراغماتية العقلانية لكن بضوابط أخلاقية.وحيث أن طبيعة الدولة الإسلامية الإيرانية تقتضي الإهتمام بالشأن الدنيوي والشأن الأخروي، فإنها تعتمد في تحقيق ذلك على استراتيجيتين متوازيتين، الأولى ترسم الخطوط العامة لماهية المصالح المادية الدنيوية التي تهم كل فئات شعبها باختلاف أعراقهم ومعتقداتهم ومشاربهم وتوجهاتهم الفكرية، والثانية تؤسس للخلاص الروحي في الآخرة بالنسبة للمؤمنين بأن الدين رسالة إنسانية تقوم على المحبة والإحترام والتعاون والتضامن والعمل الصالح الذي يفيد الناس، فتعمل على ضمان الأمن الروحي لمواطنيها والسلم الأهلي لمجتمعاتها بتنوعها.ووفق التجربة الإيرانية، الأمر لا يتعلق برؤية طوباوية للدولة، بالمفهوم الأفلاطوني لـ’المدينة الفاضلة’، بل برؤية إسلامية حداثية منطقية وواقعية أثبتت صلابتها وحققت نجاحات باهرة مكنت من جعل إيران دولة قوية محترمة، تحتل مكانة متميزة بين الأقوياء، وأصبح لها كلمة مسموعة في السياسة الخارجية، ودور إقليمي بناء في حفظ الأمن والسلم الإقليميين والدوليين، مع التمسك بالثوابت الدينية والمبادىء الأخلاقية والإنسانية التي تقوم عليها.هذين الإستراتيجيتين هما المحددتان للدور الإيراني الإقليمي والدولي، في إطار من الإستقلالية وعدم التبعية أو الخضوع لأية قوة دولية مهما كان شأنها. ومن قراءة السياسة الخارجية الإيرانية، يتبين أن الجمهورية الإسلامية تعادي أمريكا، وعلاقاتها مع الدول الأوربية تكاد تكون جامدة، في حين تنسج علاقة صداقة جيدة مع روسيا والصين والهند ودول البريكس وغيرها من دول العالم الثالث من منطلق تبادل المصالح، وبهذا المعنى، لا تعتبر إيران تابعة للمحور الروسي بالمطلق، بل تشق لنفسها طريقا خاصا تطمح لأن يجعلها هي وحلفائها في المنطقة محورا قويا مستقلا ضمن وعاء “المقاومة” للهيمنة الأمريكية الأطلسية على المنطقة وللإحتلال الصهيوني لفلسطين، وتدعم حركات التحرير والمقاومة في المنطقة وتدافع عن الشعوب المستضعفة ضد الظلم والطغيان والإستبداد.وفي المقابل، نجد في منطقتنا العربية مشيخة تعتبر نفسها “دولة” وتسمى نفسها “السعودية” باسم العائلة التي تحكمها في سابقة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، وتُسوّق لنفسها على أنها “دولة إسلامية”، في حين يجمع المُختصّون في علم الإجتماع السياسي، أن الأمر يتعلق بـ”دولة دينية” بامتياز بالمفهوم الكنسي الضيق للكلمة، بسبب تداخل الديني في السياسي من خلال تحالف فقهاء الوهابية مع آل سعود، ما أنتج مشيخة قروسطية تيوقراطية إستبدادية فاشلة لا علاقة لها بالإسلام ولا بدولة المؤسسات الحديثة، حيث يسمو السياسي على الديني ويُستغلُّ الدين في السياسة أبشع إستغلال. “مشيخة” أو على الأصح “مزرعة” تُدار بعقلية القبيلة بعيدا عن منطق المؤسسات، وتُساس بمنطق الضغائن والأحقاد في غياب المشاركة الشعبية من خلال الآليات الديمقراطية التي تمكن المواطن من المساهمة في رسم سياسات بلاده الداخلية والخارجية. “المشيخة” السعودية باجماع الخبراء، تعتبر “دولة” لا عقلانية، واهنة، وبالتالي، عنيفة، ظالمة وفاسدة، بسبب ارتكازها على العصبيات الجاهلية والعلاقات العشائرية وعلى بنية عتيقة للشخصية الحاكمة المستبدة، لا تعمل من خلال رؤية لا دنيوية ولا أخروية، ولا تضمن حرية ولا عيشا كريما لمواطنيها برغم الخيرات التي حباها الله بها، ولا تعمل على خلاص المؤمنين فيها، بل تضمن للمغفلين منهم رحلة سريعة إلى أصل الجحيم بسبب تشجيعها للإرهاب والفساد في الأرض، وبالتالي لا يجمعها بالإسلام السمح الجميل رابط يذكر، ولا علاقة لها بسنة النبي الأعظم (ص) الذي وضع الأسس المتينة لمكارم الأخلاق، إلا الخير والإحسان.أفول الزمن العربي وانبعاث الزمن الإسلامي الجميل..اليوم لا حاجة لنا لإستدعاء نظريات ابن خلدون أو غيره من الفقهاء والمؤرخين والفلاسفة لنفهم معنى الدولة الإسلامية وسياسات الحكم، وسنكتفي بالإنطلاق من الواقع الذي هو المحك الحقيقي للتجارب الإنسانية.
هناك إذن واقع اليوم يقول لنا، أن التجربة الإسلامية الإيرانية الجديدة نجحت نجاحا منقطع النظير وفرضت نفسها كأنموذج راق في المنظومة السياسية العالمية، في حين أن التجربة الإسلامية السعودية رغم قدمها فشلت في ذلك فشلا ذريعا.. لماذا؟..
لأن الأمر ببساطة يتعلق تحديدا بـ”العناية الإلهية” التي نعتقد كمؤمنين أنها وحدها القادرة على تغيير الواقع الذي ننطلق منه في حال نجحنا في فهم من نكون ولماذا وماذا نريد وما المطلوب منا عمله أخلاقيا وشرعيا في التجربة الأرضية؟ ومن ثم تسلحنا بمكارم الأخلاق وأخذنا بالأسباب الموجبة للنجاح.. هذه هي المعادلة الصحيحة التي أغفلناها وأضعنا الوقت والجهد في نقاشات فكرية غير منتجة حول “العلمانية” و“الإسلام” و“الدولة المدنية” و“الدولة الدينية” وما إلى ذلك.. فوصلنا إلى حائط مسدود لم يعد النفاذ منه ممكنا إلا بالرجوع إلى الوراء والإقتتال إنتصارا لهذا الخيار أو ذاك، في حين أن رحمة الله وسعت كل شيء.عندما تخلى العرب عن المشروع الحضاري الإسلامي واستبدلوه بالمشروع القومي العروبي أذلهم الله، وذهب بريحهم، وحولهم إلى أمة تضحك من جهلها الأمم… وفي المقابل، عندما تمسكت إيران بالمشروع الحضاري الإسلامي، أعزها الله، ونصرها على أعدائها، وأعلى من كلمتها، وحقق لها المجد والتقدم، فأصبحت أمة محترمة تساهم في ركب العلم والحداثة بين أرقى الأمم..اليوم دار الزمن دورته وعاد كما كان أول مرة، وأصبحت إيران الإسلامية دولة عظمى بفضل حكمة وبصيرة قيادتها، ومثابرة وشجاعة وصبر شعبها، وما حققه علمائها الأبرار من تقدم أبهر العالم في كل مجالات التنمية، والتي لن يتسع هذا المقال لجرد بعض من أوجهها الكثيرة المشرقة..
إيران اليوم أعادت الزمن الجميل لدنيا المسلمين، ذاك الزمن المجيد الذي نقرأ عنه في كتب التاريخ ونفتخر به في مجالسنا، أيام وهب الإيمان للمسلمين إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، من حدود الصين إلى جنوب فرنسا مرورا بآسيا ودول المشرق وإفريقيا..أيام أضاءت أنوار المعرفة الإسلامية عتمات الظل في عقول أوربا المظلمة في العصر الوسيط انطلاقا من جامعات الأندلس فبريطانيا، ثم انتشر العلم كالنار في الهشيم إلى بقية الدول الغربية، فأخرجها من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار المشرقية، وأنقذها من الجهل والمرض والفقر والتخلف، وأصبح العالم على ما هو عليه اليوم من تقدم تجاوز حاجز الحداثة إلى ما بعد الحداثة..
هذا العالم الذي يعود الفضل في تقدمه وحداثته إلى الأنوار المشرقية، عاد مرغما اليوم ليعترف لإيران الإسلامية بهذا الفضل من خلال الإعتراف بحقها كاملا غير منقوص في العلم والمعرفة والتكنولوجيا باعتبارها ملكا للبشرية وحقا للإنسانية جمعاء، والإقرار بدورها الرائد كأمة عظمى تساهم في النهضة والحضارة والسلم والإستقرار العالميين..فرحم الله كوكبة العلماء الأفاضل الكرام البررة الذين كان لهم الفضل في تغيير مجرى التاريخ ووجه الحضارة الإنسانية، وكلهم، باستثناء ‘ابن البيطار’ و ‘ابن رشد’ الأمازيغ، و ‘ابن خلدون’ و ‘ابن بطوطة’ العرب وآخرون يُعدّون على أصابع اليد، كانوا من أصل فارسي، كالبخاري، ومسلم، والترمذي، وابو داود، والنسائي، وابن ماجة، وجابر بن حيان، والرازي، والبيروني، والخوارزمي، وابن الهيثم، والكندي، والفرابي، وابن سينا، وابن مسكويه، وابن فاتك، وابن هندو، وابن مسرة، وابن حزم، وابن طفيل، وغيرهم كثير…وصولا إلى علماء اليوم، منهم من استشهد في سبيل نهضة الأمة غدرا على يد الصهاينة، ومنهم من لا زال يعمل ليل نهار من أجل التطور والنهضة ومقارعة الدول العظمى في ميادين العلوم والمعرفة، وآخرون يجتهدون في كراسي التحصيل ليكملوا المسيرة.. هؤلاء هم من قررت إيران بموجب الإتفاق النووي الأخير تحويل مبلغ 400 مليون يورو كمنح لتغطية تكاليفهم الدراسية في الخارج، ما يبرز أهمية العلوم ومكانتها في السياسة الإيرانية العقلانية الرشيدة.. وهذا هو معنى “الجهاد” القرآني الحقيقي الذي أوصانا تعالى بجهاد الناس به (وجاهدهم به جهادا كبيرا)، ما يعني، بدل الجهد في مجال العلم والمعرفة والعمل الصالح لعمار الأرض من أجل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهو بخلاف “جهاد الإرهاب” الذي هو درب “الشيطان” الذي يعني قتل النفس التي حرم الله واستباحة المال والعرض والسعي في فساد الأرض وخرابها.هؤلاء هم علماء الأمة الأبرار الذين تصفهم الديانة الوهابية بالكفر لأنهم من أصل فارسي بالرغم من أنهم آمنوا برسالة ‘إقرا’ التي جاء بها محمد بن عبد الله (ص) فصنعوا أعظم حضارة عرفها التاريخ. كما وتعتبر الوهابية اليوم كل من يخالفها العقيدة والنهج كافر يستباح دمه وماله وعرضه حتى لو كان سنّيًا من أتباع إحدى المذاهب الأربعة الكبرى. لأن ما يميز العقيدة الوهابية التلمودية وفق الثابت من الوقائع هو تكفيرها للتفكير وتشجيعها للجهل، والتحريض على القتل والذبح وأكل القلوب التي في الصدور ونبش القبور.. كما أن سنة هذا النبي الوهابي الدجال المدعو ‘محمد بن عبد الوهاب (له من الله ما يستحق) تعتبر كل المسلمين الشيعة أتباع سنة المصطفى (ص) كفارا، لا لشيء إلا لأنهم من محبي أهل البيت الأطهار الذين قال فيهم الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الأحزاب: 33.
سُئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند الأمير فقال: “إنه خارجي، معتزلي، ناصبي، حروري، جبري، شيعي رافضي، يشتم علي بن الخطاب، وعمر بن أبي قحافة، وعثمان بن أبي طالب، وأبا بكر بن عفان، ويشتم الحجاج الذي هو والي الكوفة لأبي سفيان، وحارب الحسين بن معاوية يوم القطايف (أي يوم الطف أو يوم الطائف)، فقال له الأمير: قاتلك الله ما أدري على أي شيء أحسدك أعلى علمك بالأنساب أو بالأديان أم المقالات؟”..
وهذا هو حال أتباع الوهابية اليوم، يساقون كالنعاج من قبل فقهاء جهلة إلى حضيرة حكام لا يملكون من العلم إلا ما له علاقة بعشق النساء وفنون النكاح وترويد الجواري والغلمان.. وها هو ملك الإنسانية المْعظّم، خادع الحرمين الشريفين، لا يملك من المؤهلات العلمية سوى شهادة الميلاد وشهادة القسم الثالث إبتدائي بدرجة راسب جدا، ولا يفهم من مصطلح الأمن القومي العربي إلا ما له علاقة بتأمين عرشه من الزوال، ومن التنمية إلا النهب والسلب والفساد، ومن السياسة إلا فنون الظلم والإستبداد، ومن الإستراتيجيا إلا ما تنصح به واشنطن، ومن المؤامرات إلا ما يمليه عليه أبناء عمومته في تل أبيب.. ومع ذلك يُصرُّ على أن يكون زعيم المسلمين السنة في العالم، والسنة منه ومن جهله براء.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق