أدباء يدعون لإعادة قراءة السياب في ضوء المناهج الجديدة
متابعه / الرأي
بعد 49 عاماً على رحيل رائد الشعر العربي الحديث، ثمة تساؤلات عدَّة حول إعادة قراءته من جديدة، فبدر شاكر السياب الذي رحل في مثل هذا اليوم من العام 1964 فتح الباب للقصيدة العربية الحديثة التي تناسلت إلى حداثات كثيرة، كان أولها قصيدة الشعر الحر، ولم يكن آخرها النص الجديد، أو ما بعد قصيدة النثر، الذي عقدة في ضوئه عدة مؤتمرات في القاهرة وبيروت وغيرها من العواصم العربية.
لكن بعد ما يقارب النصف قرن، ما الآليات التي يمكن أن نعيد من خلالها قراءته؟ وكيف نفهم المعايير التي بنيت على إثرها قصيدة، والمؤثرات الداخلية والخارجية التي أسهمت في نصه ليفتح منذ ذلك الحين جدلاً لم ينتهِ حتى الآن؟ تساؤلات تفتح الباب لاستكشافه مرة أخرى، خصوصاً وقد أعلن اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين أن العام المقبل عام السياب بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيله:قراءة الثيمات المحلية
من خلال الكتاب الذي أصدره الناقد والشاعر ناصر الحجاج، تشكلت له مفاهيم خاصة في إعادة قراءة السياب، إذ يقول إن النقاد العرب قرأوا قصائده بذائقة عربية تخطت كل الثيمات والعناصر المحلية العراقية دون الالتفات إليها أو إدراك معانيها، إذ لم يدرك إحسان عباس وعيسى بلاطة؛ وهما أبرز النقاد العرب الذين تناولوا حياة بدر وشعره، ما ضمنه السياب في قصائده من أمكنة محلية كجيكور وأم البروم ومنزل الأقنان، وخور الرميلة، ومن أغان محلية مثل “أغنية ذوب وتفطر .. آه يا سليمة يا سليمة ..) التي تغنت بها “المومس العمياء” أو أغاني البحارة وهم يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع أمواج الخليج، “منشدين: مطر.. مطر.. مطر”، بل حتى تلك الأغنية التي يترنم بها “حفار القبور” وهو يهيل التراب على جثة فتاة عراقية.
مضيفاً ان الفولكلور المحلي بكل عناصره: الغناء، الملابس، طرز البناء والعمارة “الشناشيل”، قصص الجدات، الأساطير والخرافات، ونداءات الباعة “حديد.. عتيق..” والتقاليد الاجتماعية وأساليب الحياة المحلية، كلها تحتاج إلى قراءة جديدة لا ينهض بمهمتها إلا الناقد العراقي الذي يعرف شعاب ودرابين الحياة المحلية العراقية، ولأجل هذا كانت دعوتي في كتاب “السياب.. هوية الشعر العراقي” محاولة لتمهيد الطريق أمام دارسي الأدب العراقي بشكل عام، ودارسي الشعر العراقي للالتفات إلى أن بضعة آلاف من “الجاهليين” كانوا يسكنون الجزيرة العربية استحقوا أن يوضع لهم كرسي “أدب جاهلي”، وأن ملايين العراقيين اليوم يستحقون أيضاً أن نخصص لهم في كليات الآداب مادة منهجية عنوانها “الأدب العراقي” وإذا ابتدأت هذه الدعوة بالسياب، فعلينا أن نجعلها مفتوحة لكل ما هو عراقي من الأدب.
شعر كالقهوة
السياب يبدو للدكتور يوسف اسكندر؛ فعلاً كما وصف شعره مرةً، بأنه مثل طعم القهوة وليس مثل طعم السكّر، “يبقى طعمه طويلاً في خيال الحواس، إذ إن بشعره حاجة باقية في مناهج التحليل لفحصه ودراسته، أولاً لطبيعة شعره، بوصفه نتاج مرحلة ريادة، وثانياً لأن المناهج التي شغلها شعر السياب توزعت بين صنفين: صنف الدراسات الانطباعية الساذجة ذات المنزع الصحفي، وصنف الدراسات الاكاديمية المنهوكة باللوازم المنهجية، وضاعت كثير من العوالم الدلالية بين هذين الصنفين على غزارتهما”. ويضيف اسكندر أن هذا لا يعني أن الصنفين لم ينتجا دراسات مهمة، بل الحديث هنا عن شعر السياب بوصفه رسالة أو كوناً دلالياً ينبغي الوصول إلى العناصر الدلالية التي يتألف منها هذا الكون الدلالي، فلا عبرة ولا أهمية بمعرفة أن هذه الصورة تشبيه أو استعارة محسوس لمعقول، أو أن السياب يركّز على الأساليب التشبيهية أكثر من الاستعارية، أو أن السياب يعبّر عن رؤية الطبقة الوسطى للعالم أو ما إلى ذلك، فحسب، و”إنما ينبغي أن تندرج هذه المسائل بوصفها أساسات الخطاب الشعري للسياب في مستوى أعمق هو مستوى البنية الدلالية– المنطقية للكون الدلالي السيابي”. ويعتقد اسكندر أن من الممكن أن نقرأ السياب من جديد، وأن سيمياء مدرسة باريس مثلاً، تقدم لنا أدوات منهجية مهمة لمثل هذه القراءة الجديدة؛ على سبيل المثال.
محرك فاعل
الشاعر واثق غازي يقول: إن الحديث عن الكيفيةِ التي يُمكن أن تعادَ من خلالها قراءةُ السيّاب شاعراً في ظلِ الظرفِ الراهنِ وعلى مبعدةِ نصفِ قرنٍ من رحليه، يفتحُ بابَ السؤالِ أمامَ جُملةٍ من التناقضات التي تزخرُ بها أخيلة الثقافة العراقية، يرسَخُ من هذه التناقضات منذ أن جالَ السيّاب بعينيه مريضاً دون أن تدنو إليه يدُ الدولة من ناحية المواطنة أو أية مؤسسة معنية بالشأن الأدبي من ناحية كونه اسماً فاعلاً ذا دأب وحضور.
مضيفاً أن طبيعة الثقافة العراقية تسربَ إليها الفَهمُ القاصر عن كون المثقف هو ذخيرة وطنية وليس تميّزاً مناطقيّاً.
“لقد عانى السيّاب كما عانى بلند الحيدري، وجان دمو، والبريكان، ومحمود عبد الوهاب، وسيعاني كذلك رهطٌ قادمٌ ليس أقل شأناً منهم، ستكون المعاناة في الطريقة التي يفهم من خلالها الوسط الثقافي العراقي أهمية الرموز التي تُحدثُ فارقاً معرفياً في النتاج الأدبي وحيّزه الأيديولوجي، دون هذا الرتاج الإنساني، تَقعُ كل قراءة بقصدِ الإفادة أو التصويب في دائرة المتداول والعابر”.
ويطالب غازي الثقافة العراقية “أولاً إعادة قراءة السيّاب، شاهداً على قصور الفهم لدى المحيط الرسمي والاجتماعي لدور المبدع، وجملة العقبات التي تحول دون أن يكون للمبدعين من مثل السيّاب فسحة دخول الوعي الجمعي للمجتمع ، ومن ثم يصار إلى تصدير السيّاب كمحرك فاعل أثبت قدرته على تطوير الذائقة الشعرية بنفاذ وديمومة تعزز ملكة العربي”.
الشاعر والسلطة
الملاحظ أن السلطة عندما تحابي شاعراً، فإنها تضعه في منطقة مؤسساتها الإعلامية كي تعمل على تعريفه للمتلقي، وبالتالي خلق نجوميته وشهرته المبالغ فيها أحياناً، حسب ما يرى الناقد والشاعر علي شبيب ورد. وربما يرد تساؤل مهم، وهو: لماذا تحابي السلطة شاعراً دون آخر؟! هل يعود السبب لتميُّزهِ فنياً عن الآخرين؟ وإذا كان كذلك هل تتركه بتميزه المفترض هذا، دون أن تضع يدها على مشغله الشعري؟ ولكن أي الشعراء يصلح أن يكون هدفاً لمآرب السلطة الخفية والمعلنة؟ من المؤكد أنه الشاعر الذي لا يشكل خطرا على توجهاتها الفكرية، وحتى لو تضمنت تجربته الشعرية نصوصا يمكن أن يتم تأويلها ضدها، فإنها وبأفانين شتى تحاول أن تركز إعلامياً على النصوص الخادمة لمصالحها.
وتحديداً، تحاول إشهار بعض المقاطع من النص المعين وليس كل النص، كيما تنتفع منه بشكل يسبغ عليها شرعية ما، للهيمنة على الوطن وصياغة معنى مفبرك عن المواطنة وحب الوطن. وهي تحاول الإفادة حتى من منجز الشعراء الموتى، ومنهم الشاعر بدر شاكر السياب.
ويشير ورد إلى أن السلطة حاولت استخدام بعض المقاطع من قصائده لتمرير مآربها الخادعة للذائقة العريضة المهيأة لاستقبال أية لعبة مركزية فيها موجهات للعواطف الوطنية.
و”لعل المقطع أدناه خير مثال لما ذهبنا إليه أعلاه، حيث تحول إلى أشبه بحكمة في الخداع الوطني: (إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون/ أيخون إنسان بلاده؟/ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟/ الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام/ حتى الظلام- هناك أجمل، فهو يحتضن العراق).
وهنا نتساءل: إلى متى نخدع بوطنٍ تملكه السلطات الجائرة؟!! والى متى نكتب أدباً هشاً، تنتفع منه السلطات، لقمعنا باسم لعبة حب الوطن؟! وفق هذا أحاول إعادة قراءة منجز شاعرنا السياب، ضمن مادة أسميتها (الشاعر- النص- السلطة/ الوطن مدخلاً)”.
في ثقافة وفن