شاعر يحلم بثياب المهنة
من يقرأ مجموعة الشاعر حسين الهاشمي (الحالم بثياب المهنة) بحساسية خاصة ؛ سيجد أن الهاشمي يؤلّف قصيدته من شتات لغوي مفعم بالمرارة، إذ يجعل من جملته الشعرية ميداناً غامضاً للتأويل ونقيضه وتلك سجية شعرية لافتة، رغم أن تلك الجملة لا تتثاءب على السطر بحبور ساكن، بل بتوتر ملحوظ خارج المتن المألوف، عادة، في الكثير من الشعر هذه الأيّام.
أقصد بالتوتر ذاك الانكسار المجدي عندما لم تعد الجمل الجاهزة بقادرة على نقد الأسى.. الأسى “الذي يترك غنائمه/ عرباتٍ تجرّها الأمهات“.
أو “إن الزمان سؤالٌ/ لا يكف عن الصفير“.
السؤال، سؤال القصيدة هنا، يكف عن طرح نفسه بتكرار المألوف وغواية الجاهز بل على شكل صفير يشي باحتمالات تأويلية: ضجراً، استغراباً، تأسياً، دهشة، تحذراً ما.
الأسى، هنا، يتشخصن أحياناً، فهو “بيته مترف بالحنين” و “يعرف/ أن المكان قبضةٌ ضائعة”، وهكذا يتواتر الانكسار اللغوي فلا يترك القارئ في وضع مريح للبحث عن الكلمة ومعناها، بل يضعه أمام مسؤوليته لكشف ما يتلاحق من تراكيب وأسئلة وترسيمات تركض وراء بعضها بعضاً على طريق الأسى المرسوم في قصيدة أولى.
توتر تعبيري: “وأبطاله ينقبون عن مقاعد في مخازن الريح“.. هنا لا يريد الشاعر لجملته/ بيته/ سطره الشعري أن يتطامن وهو يسير واضعاً يديه في جيبيه، لأن الأبطال لا يجدون تلك المقاعد، بل “ينقبون” والتنقيب يأتي عن لقى أو كنوز، وأين؟ في مخازن الريح! وهذا حل لغوي ذكي لكي يشد السطر الشعري قوسه مرة أخرى وينطلق نحو… الريح وليس باتجاه مكان مألوف أو معروف، كأن الشاعر يرمي بأساه بعيداً عن متناول أيدي الآخرين وشؤونهم.
في قصيدته التي استعار عنوانها اسماً لمجموعته يتمسك الهاشمي بمهمة إنسان يحاول دحض الأسى، بصيغ متعددة، وفي هذه القصيدة اتخذ “الأسى” شكلاً آخر: العزلة.
العزلة لا تحيل، دائماً، إلى “الأسى” فثمة عزلة تتضمخ بالبهجة )مثلا (ولكن متى نعثر عن “علامات” لغوية تدلنا على مرام الشاعر أو قصده؟
لو اخترنا بعض “علامات” من النص، بقصدية نقدية طبعاً، لتوصلنا إلى ما يريد أن يحيلنا عليه الشاعر:
“لم أعد أخشى على الوهم – تركت الثقوب – تركت جسداً لهدايا الحروب – أخبرت دمي – الجحيم – هامش الرماد – اهتزاز الأماكن – هوس الهروب – قبضة عكازي – و…إلخ” لو اخترنا هذه “علامات” سيتاح لنا – نحن القراء – “تأليف” مشهدنا الخاص حتى لو كان بمعزل عن إرادوية الشاعر، مشهد أسى مكين، مثير لأسى يخصنا نحن ولكنه انبثق من “أسى” القصيدة، وهذه مشاركة فاعلة بين الشاعر والقارئ، أو هي “فخ” عاطفي نجح الشاعر في أن يوقعنا به بمحض إرادتنا.
قصائد حسين الهاشمي انجاز، يعزز الأمل بشاعر يكتب قصيدة مهمة إذا واصل هذا اللهاث الحميم خلف “أسى” يستعصي على الإدارة الشعرية وطاقتها على أن تكون في صيغة مثالية.. ليست، ثمة، صيغة مثالية للقصيدة، إنما هناك “اشتغال” مخلص ومحاولة جادة للقبض على “الأسى” شعرياً، وهذا ليس بالقليل، أبداً.
حسين الهاشمي
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق
في ثقافة وفن