الهور.. جسد المكان العائم بين المعطى الحسّي والمكون التأملي
* حسين الهاشمي
إذا (( كان عمق المكان يمثل رمزاً لعمق الزمان )), فلا بد من رؤية الأشياء على السطوح وكأنها كائنات امتلكت سلطتين في آن معاً.. سلطة معلنة تمد مجساتها كغطاء طبيعي, وأخرى مخفية تتعاطى سريتها على وفق المنظور الرؤيوي للمتلقي الذي يبحث في مكنونات جسده المشوب بالغموض والوضوح, كتداخل تمليه صيرورة الحياة داخل هذا الجسد, كمعطى يجمع بين أبعاده الثلاثة (الماضي/ الحاضر/ المستقبل) .. ولعل المتوغل في بيئة كالهور, سيصطدم بصورة المكان المترامية, وكأنها تدفع بمعداتنا وأدواتنا الحسّية إلى التضامن والاحتشاد, لمواجهة – المرئي- كجسد متيقظ, يبث مفردات مكوناته المائية, من خلال التقاط أصوات لأجراسه الخفيضة, تلك التي تنبض بها المكونات البصرية أولا.. إنها أجراس للإيحاء تتناقلها نظم المناقلة غير المرئية, بين سيولة المسطحات العائمة والهواجس الداخلية المتنقلة فوق زوارق الترقب الرشيقة, وهي تلامس تلك الأذرع المتشابكة والمتضامنة لكائنات البردي والقصب.
وحيث أن هذه الصورة المتداخلة, بين مستوى الانبساط الظاهري والمستوى العميق للمكان, تؤسس لما يشبه الحوار بين الجسد الملقى كعزلة, والآخر كمشارك , لذا فأن نقطة انطلاق الرغبة لاكتشاف هذا العالم الغريب والمتوحد, تبدأ كما لو أنها في داخل- وثيقة- برأس وأطراف دائمة الحركة تبحث عن معدات وأدوات رؤيوية, تدفع بالمرئي إلى تشكيل صورته وفق تضامن عجيب, يمتزج فيه المدرك بالمحسوس.
جسد العزلة هذا, منسوج من امتدادات أنفاس موغلة في غرائبيتها..معتقداتها, طقوس لاتقاوَم لسريتها وسحريتها في آن معا, ولقوة المجهول التي تشبه القفزة التلقائية, وسط هذا الكون العائم..إنها القفزة التي لايمكن الامتناع عنها أبدا.!
إن الموجودات التي ليس في حياتها – مجهول- لاتحتاج إلى التأمل, ومن هنا تبدأ الجدلية في الانتقال من الوثائق, بعد تفاعلها في النشاط الذهني, إلى العالم الذي يحتوي الأثر, وفق ترابط خفي بين البعد الزمني (اللحظوي) وقوتي الشد (الماضي/ المستقبل) ،
ولايمكن هناك اختزال الفعل الإنساني بعيداً عن خصوصية (الجسد – المكان), بتفاصيله الملموسة, والذي يتعاطى – اليومي- او المعيش مرتبطاً بدلالة (الواقعي/ الأسطوري).
وهي ثنائية تمليها إشكالية تراكم الرموز والمعتقدات, والحوادث, والكثير من القصص والحكايات, تصاحبها الضرورة الطبيعية أو الفيزياوية للأشياء التي تتحكم بهذا الفعل, أو التي يتحكم بها- الفعل- في آن معاً.
|
فحين تتخلل هذا الجسد المائي سكونية سحرية, يصبح من الصعوبة فيها منع حضور الروح المتمثلة فيه, كما لو أنها تثب متطلعة من فوق (الإيشان)[1], تلك الجزر الطبيعية التي تنبجس كمكونات خلقت كي تكون شواهد
عنيدة تلخص أصل الأشياء هناك, أو تدون أساطير الخليقة المغمورة بتراتيل الطوفان, ونصوص الحكمة والرثاء..
في – اليشن- تبدو النظرة الأولى للمهد الأسطوري, والصرخة التي تطلق أجراسها من فيض الروح الرجراجة, وباتجاه القفزة التي لايمكن الامتناع عنها أبدا.. قفزة المجهول التي ترتفع إلى آلاف الأعوام, تراها تحوم كالطائر يخترق خط الأفق هناك, وما يلبث يهبط فجأة في سيولة الجسد الشغوف, كصدمة رشيقة تحرك سكونيته المؤقتة, مثلما يحرك حجر نابض سطح الماء, فيرسم وشماً ذائباً في قاعه, قبل أن ينتفض
ثانية وفي فمه كائن يحمله بهيئة غنيمة.. غنيمة الحياة أسفل السطح الذي يبدو أحيانا كمرآة عاكسة لمناجم هذا الجسد الغريب..المتوحد.
مسرح للمياه, بطاقة إيمائية تجاور الطاقة الملموسة بفعل تواجد الأشياء, بل من الصعب أحيانا فك التلازم الخفي بين علامات هذا المكان الإشارية, ومكونات جسده التي تتشكل وفق حركة المنظومات الهندسية, بتلقائيتها الحاضرة والمؤثرة, أو وفق التداخلات العملية الموجبة للإنسان هناك – ابن المكان- وهو يقود آلياته الفطرية, لتعزيز ديمومة واقعه اليومي من خلال تنظيم إيقاعه الحياتي بتناغم مع إيقاعية هذا الجسد المائي, حتى ليبدو الأمر لنا وكأن هندسة الأشياء, هي هندسة للوهم, حين تنسج الأشياء كلها على ذلك المسرح الخرافي, فتصبح ملموسة جداً, ” لأن تواجد الأشياء في المكان الذي نضيف إليه وعي وجودنا الخاص, هو شيء ملموس جداً..”2.
إن الصورة الانطباعية الأولى التي تمنحها “الكواهن”3 مثلاً, وهي شوارع مائية او ممرات تخترق كثافة البردي والقصب, لاتستكمل حضورها وفق ذلك الوعي, إلا حين تتلازم مع طقوسية الإيماء بأن هذه (الشوارع) او (الممرات) داخل كثافة الأشياء وتشابكها, هي حصيلة للفعالية الجارية بين مايحدث داخل مكونات هذا الجسد الذي يمارس لعبة الظهور والاختفاء على مسرح الماء, وكأن ثمة قوى إيحائية خارج هذه الممرات, تدفع بالزوارق النحيفة المتوغلة منها, إلى استكشاف ما لهذه الطاقة من رموز ودلالات, وعلائقها المتداخلة بين المرئي كصورة حاضرة, واللامرئي كمكون ميثولوجي نابع من استتاره وانزوائه وراء المكان.
هل يبدو ذلك كأحدى الخصائص الدينامية لحلم الجسد ويقظته في آن معاً!؟
الانطباع الفخم لسيولة المكون المائي, الظاهرة والمستترة, قد تنشأ للوهلة الأولى من خلال الصورة المرئية للأجزاء الثابتة والمشرفة في ذلك المسرح, متمثلة بما يعرف بـ “التهول”4 وهي أشبه بمرتفعات تتشكل من خلال تراكم القصب والبردي, فتنبثق كجزر طبيعية تصلح للإقامة والسكن من قبل أهل الماء هناك.. لكن سيولة المكان هي الرهبة أيضا.. الرهبة التي تقطن المجهول, مثلما هي صيرورة الوجود المندفعة خلل التيارات المائية.. لذا يتدخل الإنسان هناك بآلية فطرية عجيبة لتنظيم مايجري حوله, كضرورة للبقاء, ومن بينها تلك السدود البدائية من القصب والبردي والطين والتي تعرف بـ “الحمول”5..سدود ضد تيارات الماء غير المنضبطة ..سدود لتنظيم رهبة التدفق, مثلما هي استجابة آلية لنداءات الطبيعة المنبعثة من رغبات حقول – الشلب- حتى يحين أوان النضوج.. فعاليات تأخذ شكل طقوس للنماء, متوغلة في أزمانها, وماتزال تبعث بنسائم علائقها الحميمة, وأمزجتها الحالمة, على متون ذلك التجوال المنزلق, والمتمرد على ربقة اليابسة, نحو حضانة تأتلف فيها المتضادات, وتتعايش كما تتعايش الأبعاد الزمنية الثلاثة خلال هذا اللامتناهي في الاتساع واللامتناهي في الألفة, وباتجاه تلك الوحدة الإنسانية والطبيعية التي تتعمق في هذا المكان الخفي, نحو الاتحاد بالكون أو كما يقول ريلكه: ( وحدة لاحدود لها تجعل من كل يوم عمراً بأكمله, نحو الاتحاد بالكون, وبكلمة واحدة, المكان, المكان الخفي الذي يستطيع الإنسان أن يعيش فيه والذي يحيطه بحضورات لاحصر لها”..
وحدة الإنسان مع كائنات ذلك الجسد العائم النباتية والحيوانية ربما هي التي فتحت شهية الإبداع والمبدعين, إنها شهية لم تقذفها هناك الأرضية الحاضنة لثلاثية التشكيل الحسي بالتأملي, أي (الخيال – الذاكرة- البصيرة) وحسب, بل ربما رافقتها صورة الانبعاث تلك لوحدة المكان والزمان والإنسان, في جسد يعيش غريزة تمرده وانفلاته الطبيعي فوق أساسات من التهويم الحر والمنطلق, ليطفو كائناً متفرداً يعوم في حيزين, حيز يضفي عليه سمة الثبات والمتعين والملموس الصادم, بقوة وكثافة حضوره, وبسبب وقعه الصادق الذي يحرك أعماق وجودنا, وحيز آخر يضفي عليه صبغة المجهول أو الكائن المتلاشي عن اليابسة فيصبح وجوده عصياً على الإمساك بقبضة أدواتنا الحسية التقليدية, كما لو انه وجود شبحي!.. وربما يكون هذا هو السر الذي يجعل من – الأثر- الإبداعي واقعاً في فخاخ جماليات غامضة تجمع بين مكونات هذا العالم المتواشج سحرياً وعقلياً في آن معاً, ليجد المبدع نفسه أمام حقيقة صادمة, مدهشة, عندما يدرك بأنه لاينظر إلى الجمال, بل هو الذي ينظر إليه ولا يسامحه – بتعبير كازانتزاكي- , كما يجد نفسه متأملاً في علائق الناس هناك مع تلك الكائنات الطبيعية, حين يعيشون ويموتون معاً على رغوة- ذلك الجسد وقسوته أيضاً. يكتب الروائي العراقي – جاسم الهاشمي- مثلاً في روايته “ضياع بنت البراق” 6 عن ذلك:
((الأرض مستبدلة بالمياه والسماء سماءان..واحدة فوق رأسه وفوق زوارقه, وأخرى في قاع المياه الممتدة من طرف الأرض الى طرفها الآخر..عوالم واحدة فرقت المياه بيوتها أشتاتاً, فجعلت أسلافاً منها على طرف وأسلافاً أخرى على الطرف الآخر..النباتات ذاتها, (الشنبلان) يرسل زهوره الصفراء الصغيرة فوق السطح ويغطس في عمق المياه حتى يحس قاع الهور, ويتوزع على سطح المياه كحدائق صفراء متوحشة, معزولة لايحس بها أحد, يمر بها الناس فيحسونها جزءاً منهم.. من شواربهم, من أظافرهم, من أردافهم, ولكنهم لايحسون بها أزهاراً صفراء صغيرة موزعة بدقة وحشية على سطح المياه, معزولة بين أكمام البردي الأخضر))ص57
وفي مقطع آخر من الرواية ذاتها ص232 (( تشرق عليك الشمس فتصبح مسرحاً للطيور البيضاء والسمك الصائل والنباتات المهفهفة مع الريح..تغيب عنك الشمس, تتجندل الحياة لديك, فإذا بقاماتك المتعامدة, المغروزة في سطح الأرض تشخص إلى السماء كالرماح مهيئة للانطلاق, كأنما تحتوي لياليك تلك الفروع العالية, تشحذها بالليل لتطلقها في النهار..كأن الأرض تنزّك من كل مكان فتتجمع في هذه البقاع, وتلد فقاعاتك الناس, ناس سرعان مايتهشمون, يلدون على رغوتك, يعيشون على رغوتك, ويموتون كما تتفجر رغوتك)).
ربما لن يجد المتأمل (وثيقة) أروع من وقائع لديها القدرة على احتواء الأبعاد الرجراجة, ودفعها بين حقيقتي المكان والزمان, ولكن بشد قوي نحو المستقبل, تلك الوقائع ذات الطبيعة التراكمية في الفعل الإنساني, ممتدة من الذاكرة إلى التجربة, كما هي أيضاً اختزال ذلك الفعل من النقطة المعتمة في الماضي البعيد لـ -ماهيته-, إلى لحظة تشكيل الحضور الإنساني.. هذا التجوال الخفي قد يكون فعل بناء (عقل وعاطفة) أو (مدرك ومحسوس), لايتولدان الا بفعل هذه القفزة التي أشرنا إليها في البدء, والتي لايمكن الامتناع عنها أبداً.. قفزة المجهول التي ما إن يفتح المرء عينيه على هذا العالم, إلا وبدأ معها بغزل حبال أراجيحها, كي يبدأ معها رحلة التأمل أو الاستكشاف.. إن رحلة الاستكشاف تلك, لاتبدأ من الإنسان هناك معزولاً عن المكان المحاط بمعتقداته ورموزه وخرافاته, والتي غالباً مايصعب معها زحزحة الثوابت التي تؤسس لما يشبه المناطق المحرمة..في ذلك الجسد ثمة مناطق محرمة حين يصبح كل شيء محدداً في عالم الأرواح الخفية..
انها تبدو كضرب من الإيحاءات المخيفة بالنسبة للساكنين هناك, وبسبب – عمقها- الأسطوري, تصبح رمزية او مقدسة, وهذا مايجعلها وبمرور الزمن, ضرباً من الحاجة لديهم, إلى إيحاءات قادرة على التحكم في اللامتناهي البعيد عن سيطرة – الجسد – أو البعيد عن سيطرة المرئي – المكشوف- لها, لتتمثل كصورة راعية وأمينة تحرس الكنوز المستترة تحت السطح, والتي ينبغي الحفاظ على سريتها, كجزء من سرية هذا العالم الذي يأبى أن يكشف عن كل خباياه, وهذا ربما مايمنح الإحساس لديهم بالأمان والحرية تدريجياً, ولكن ضمن حدود تلك الثوابت غير القابلة للاختراق أبداً.
ففي هور (الصحين) مثلاً (( يشيرون في الليل إلى ضياء متوهج بعيد جداً..يقولون إن هذا الضوء مصدره ((الحفيظ))7 , والجن لايسمح بالاقتراب من محل سكناه, وهم يخافون الوصول إليه, ويكتفي كل واحد بالإشارة إلى الجهة التي يتواجد فيها, ولايُعرفبعده عن ((الصحين)) تماماً, وذلك لأن مكانه يتغير بفعل السحر والجن..))8.
هل يكون ((الحفيظ))مخبأللكنوز من الأحجار الكريمة والذهب والفضة وباقي المعادن النفيسة, أم مرتعاً لحقول كثيفة من الأشجار المثمرة..هل يكون حقاً هو الفردوس الغاطس في رهبة اللامكان, تومئ الأبصار إليه من بعيد, يجتذب قوة الإغراء والرغبات الطافحة على الجسد, ولاتصل إليه..؟ في هذا المكان المبهم وغيره, قد تختزل العديد من الصور والحكايا الغرائبية, والتي تصبح ضمن النسيج الغامر والمتكتم الذي يؤثثه جسد الماء, الموزع بين قوتين تتنازعانه وتميلان إلى جلب وجوده السطحي نحو المنطقة التي يرغب فيها الوجود أن يكون مرئياً ومخفياً في آن معاً حيث ((تصبح حركات الانفتاح والانغلاق كثيرة ومعكوسة ومشحونة بالتردد إلى حد يجعلنا قادرين ان نخرج بالمعادلة الآتية: المكان وجود نصف مفتوح..)9
إن المتأمل في مسرح الجسد المائي, العائم فوق نسيج من المفردات المتضادة/ المتآلفة, ليحار في كيفية احتشاد عناصر المكان الطبيعية وغير الطبيعية على هذا النحو التناغمي, والتي تؤسس لمشهد درامي عريض وواسع, قد لايمكن الإمساك بوحداته – الأرسطية- بسهولة, لكنه قطعاً يدفع بالمتلقي نحو استيهامات مستفزة لتجميع كل صوره ووقائعه المتعددة نحو تصعيد مدرك ومحسوس معاً, على منصّة التأمل.
[1] .((اليشان)) أو ((الإيشان)): الجزر الطبيعية الموجودة في الاهوار وتستغل للسكن من قبل سكان الهور
2. .باشلار/ جماليات المكان/ ت: غالب هلسا/ بغداد، 1980.ص2273
3.((الكواهن)): ممرات مائية ضيقة داخل مساحات البردي الكثيفة.
4 .(( التهول)): عبارة عن جزر من القصب والبردي وتنشأ بصورة طبيعية.
5 .((الحمول)): سدود من القصب والبردي والطين يسمى الواحد – حمل- يصنعها الفلاحون في الهور لمنع التيارات المائية وتنظيم الماء وقت زراعة الشلب) أي الرز.
6.(ضياع بنت البراق) للروائي جاسم الهاشمي/ 1984- دار واسط/ بغداد.
7.الحفيظ” : منطقة معروفة من لدن سكان الاهوار الذين يعتقدون أن الجن يسكنها.
8. جولة في الاهوار: ت: محمد حسين فوزي- إبراهيم جاسم القرملي/ بغداد- 1968م.ص35
9. جماليات المكان، مصدر سابق، ص245
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق
في ثقافة وفن