رسائل أوباما الخفية الى السعودية
الفاصلة الزمنية بين أول زيارة لأوباما الى السعودية وزيارته الاخيرة، ترسم الخط البياني لصعود وأفول نجم السعودية في المنطقة.. فقد كانت الزيارة الاولى للرئيس الامريكي في ايامه الاولى في البيت الابيض، فيما كانت الرياض تحتفظ بذراعين في المنطقة، مثل احدهما “طارق الهاشمي” في بغداد، والاخر “سعد الحريري” في بيروت. الى جانب ضغوط وتحديد للدور الايراني في المنطقة، وصمت مشين حيال ملف حقوق الانسان.
ويرى بعض المراقبين ربما تكون الصدفة أو غيرها، ان تترافق الدورة الرئاسية الثانية لأوباما مع سلسلة هزائم وإخفاقات للسياسة السعودية داخلياً وخارجياً، فكانت الخسارة الاولى في العراق، بافتضاح أمر “الهاشمي” ودوره في تغذية الارهاب الممول سعودياً. ثم جاء دور “الحريري” في لبنان ليسقط من كرسي رئاسة الحكومة عام 2011، بعد فشله في تغليب المصلحة الوطنية على مصلحته الشخصية وتسخير كل لبنان لأمر واحد، وهو إطالة عمل “المحكمة الدولية الخاصة” باغتيال والده رفيق الحريري.
ومذ ذاك يبدأ مسلسل التداعي في السياسة السعودية في المنطقة، عندما تدخل بقوة السلاح والجماعات التكفيرية – الدموية لتحقيق تغيير سياسي في سوريا، وتضيع الملايين بل المليارات في العراق وسوريا وحتى لبنان، وتكون النتيجة عكسية تماماً على حكام الرياض، فلم يحصدوا سوى السمعة السيئة الملطخة بالدماء بسبب همجية ووحشية الجماعات التكفيرية. وهو ما أثر على الخطاب السياسي لها، عندما أثارت استغراب واستهجان العواصم الغربية بإصرارها على خيار الحرب لإنهاء الازمة في سوريا، وإظهار التبرّم من الاتفاق الدولي مع ايران حول الملف النووي.
هذا المآل المريع، جعل السعودية بملكها الحالي “عبد الله” في نقطة اللاعودة مع عهدها السابق، الامر الذي يعزز الاعتقاد لدى المراقبين بوجود رسائل خفية في حقيبة أوباما في زيارته الثانية للرياض ولقائه بالملك عبد الله، من شأنها ان تحفظ العلاقات معها، بالمستوى الذي يحفظ المصالح الامريكية في الشرق الاوسط بأسره، مع الاخذ بعين الاعتبار التطورات الكبيرة الحاصلة في السنوات الاخيرة، وأبرزها صعود النجم الايراني في المنطقة.
الرسالة الأولى: البديل
لم يكن صدفة تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز، ولياً لولي العهد، قبل أيام من الزيارة. وحسب مصادر متطابقة فان هذا الشخص، يتميز بين العشرات في طبقة الأمراء، بانه صاحب مؤهلات تتوافق تماماً مع الرؤية الامريكية لمستقبل السعودية والمنطقة بشكل عام، وفي مقدمتها نمط التفكير الاصلاحي في المجالين السياسي والاقتصادي.
وحسب برقية دبلوماسية أميركية تعود لعام 2009 نشرها موقع “ويكيليكس” فإن الأمير مقرن يُحظى بثقة الملك عبد الله الذي كلفه بقيادة الجهود السعودية لحل الصراعات في أفغانستان وباكستان وأرسله لبناء علاقات مع سورية. بيد إن حقيقة أخرى ربما تناقض هذه المعلومة، وهي إمعان الملك في إبعاده عن المواقع الحساسة في الجهاز الحاكم، عندما عيّن بندر بن سلطان في رئاسة المخابرات بدلاً عنه عام 2012، وأرضاه بمنصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ولعل وجود بندر في المخابرات هو الذي أغاض الامريكيين والغربيين من انغماس الاخير في الجرائم المريعة التي ترتكبها الجماعات الارهابية التي يرعاها في سوريا. وقد حاولت بعض المصادر مثل “ويكلكس” أن تضفي على العلاقة بين الأمراء، طابعاً عاطفياً وعائلياً، وان الامير مقرن، من أم يمنية، إلا ان الذهنية المنفتحة للاخير ربما هي التي تثير مخاوف المقربين من البلاط من ان يذهب بالبلاد الى ما لا يشتهون، فهو، أولاً؛ طيار متخرج من الأكاديمية الملكية البريطانية، ويتحدث بعدة لغات، ولديه عقلية منفتحة على الغرب اكثر من غيره من ابناء طبقته.
وما يعزز الاعتقاد بوصول الرسالة الاولى الى قمة السلطة في الرياض بشأن البديل القادم، ما ذكرته مصادر سعودية من محاولة الملك تعيين ابنه “متعب” في منصب نائب ولي العهد، بما يعني خلق حكم وراثي عائلي بامتياز في السعودية، وهو ما عارضته واشنطن سلفاً، وفرضت ارادتها بان يكون المتسلّق الى قمة السلطة هو “مقرن”، وليس “متعب”.
الرسالة الثانية: إيران النووية
لم يكن من السهل على الادارة الامريكية هضم الانزعاج السعودي من اتفاق جنيف حول الملف النووي الايراني، حيث كانت المفاجأة كبيرة بتصريحات مباشرة من الرياض، ربما تفسر على انها تصويب للسياسة الامريكية وتحذيرها من مغبة الذهاب بعيداً مع ايران النووية، وهو ما يعد بالنسبة للساسة في واشنطن بمنزلة التطاول غير المقبول بالمرة، من بلد مثل السعودية، يعيش دائماً حالة الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي بفضل العلاقات مع امريكا.
وهذا يؤكد البون الشاسع بين الرؤية المحدودة للسياسة السعودية، وآفاق المستقبل عيون اصحاب القرار في واشنطن. فالسياسة السعودية في ظل عبد الله، تريد الهيمنة والتسيّد في المنطقة وفق العقلية السعودية المنغلقة على ذاتها، كما لو أن منطقة الشرق الاوسط برمتها يجب أن تعيش تحت خيمة سعودية واحدة..! هذه العقلية المريضة هي نفسها التي أدت الى تهشّم صورة الرياض بين الاقران الخليجيين، ناهيك عن الاطراف الاقليمية الاخرى. لذا نسمع التعليق الدبلوماسي من مسؤول امريكي رافق أوباما في لقائه بالملك عبد الله، بأن “الاجتماع كان فرصة للتأكيد على عدم قبول أميركا باتفاق نووي سيئ مع إيران..”.
الرسالة الثالثة: سوريا
الانزعاج السعودي من تخلّي امريكا والغرب عن الخيار العسكري لتغيير النظام الحاكم في سوريا، كان مؤشراً خطيراً آخر على وجود لوثة سياسية في العقلية السياسية السعودية حالياً. فقد بلغت الهستيريا السياسية بالرياض أن تتجاهل الآثار الكارثية المحتملة لخوض امريكا والغرب الحرب في سوريا، عدم وجود التحدي النووي الايراني، والمشاكل التي تواجهها امريكا في العراق وافغانستان ومصر، الى جانب ظهور القوة الروسية الصاعدة في المنطقة والعالم.
لذا فان الرسالة الامريكية الحديثة، التوجه الى مسار يكون تحت السيطرة في الساحة السورية، ولا يكون بتاتاً، نسخة متكررة من الوضع الليبي، وهذا ما اشار اليه مساعد مستشارة الامن القومي “بن رودس” بان احد المواضيع الرئيسية في محادثات اوباما مع الملك عبد الله، هو “كيف يمكننا تعزيز وضع المعارضة المعتدلة داخل سوريا سياسيا وعسكريا كثقل موازن للاسد، وايضا بصراحة كوسيلة لعزل الجماعات المتطرفة داخل سوريا..”.
هذه الرسالة تؤكد بما لا رجعة فيه، انه يجب إعادة النظر كاملة بعلاقات الرياض مع الجماعات الارهابية المتطرفة العاملة في سوريا او تطويعها لتكون ضمن جيش نظامي معارض، بقيادة واضحة ورؤية محددة في الميدان، والاهم؛ تكون الساعد القوي والضارب للمعارضة في الخارج، لا أن تكون اليد التي تلطخ وجه المعارضة والدول التي تقف خلفها بالدماء والاشلاء الممزقة، فقد أثارت المشاهد المريعة التي تناقلتها وسائل الاتصال السريع، استهجان واستنكار الرأي العام الغربي، مما وضع المعنيين في الغرب في موقف صعب للغاية.
وحسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست”، فان واشنطن أعدت خطة جديدة من ستة نقاط لدعمِ المعارضة السورية. وتهدفُ الخطة بحسب الصحيفة إلى زيادةِ الدعمِ السري لقواتِ المعارضة من خلالِ التدريبِ والتسليح بالإضافةِ إلى فرضِ المزيدِ من الإجراءاتِ للتأكد من الجهاتِ التي تستلم الدعم. وحسب الصحيفة، فان البرنامج يسعى إلى تأهيلِ قواتِ ما يسمى بالجيشِ الحر وتسليحِها وعزلِها عن باقي التنظيماتِ المتطرفة.
الرسالة الرابعة: حقوق الانسان
لاحظ المراقبون ترحيل أوباما الحديث عن حقوق الانسان مع مضيفه السعودي، مع العلم بوجود انتهاكات سافرة للحريات ووجود عشرات من معتقلي الرأي والعقيدة، مع تعرض العديد منهم للتعذيب داخل السجون، وممارسة مختلف اشكال التمييز ضد شرائح عديدة في المجتمع.
وقد برر مسؤول امريكي عدم التطرق الى هذه الموضوع، “بان اللقاء كان مخصصا لملفات جيوسياسية كبيرة في المنطقة. هناك اختلافات في وجهات النظر في علاقتنا مع الرياض بينها مسالة حقوق الانسان”. وتابع: “لكن نظرا للوقت الذي استغرقه الحديث عن الملفات الاقليمية، لم يتمكنا من التطرق الى ملفات اخرى وليس فقط مسالة حقوق الانسان”.
وللعلم؛ فان المسؤولين الامركيين يتحاشون دائماً طرح ملف حقوق الانسان خلال لقاءاتهم مع المسئولين السعوديين، بما يشكل أحد مظاهر الازدواجية في المعايير في السياسة الامريكية. فقد أكدت المصادر أن زيارة أوباما، تزامنت مع تعزيز السلطات السعودية من إجراءاتها القمعية ضد المطالبات بالحقوق المشروعة، لاسيما ما يجري في المنطقة الشرقية ذات الاغلبية الشيعية، حيث ما يزال عدد كبير من الشخصيات العلمية والاجتماعية ترزح في السجون دون توجيه أية تهمة لهم، وفي مقدمتهم الشيخ نمر النمر، والشيخ توفيق العامر، وهما معروفان بدورهما التبليغي – الديني، ولا علاقة لهم بأي نشاط عنيف ضد السلطات الحاكمة.
بيد أن كل هذا، كان في السعودية، فما أن عاد أوباما الى بلاده، حتى قام بتسليم الناشطة السعودية مها المنيف جائزة “أشجع امرأة”، التي تمنحها وزارة الخارجية الأمريكية. وقد التقى الرئيس الأمريكي بالناشطة السعودية في مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، حيث أن المنيف لم تكن حاضرة في حفل توزيع الجوائز في وزارة الخارجية الأميركية قبل أسابيع برعاية السيدة الأميركية الأولى ميشيل أوباما. وأشاد بجهودها أثناء التقاط الصور بينما كان يسلمها الجائزة قائلاً “لإقناعهم (السعوديين) بأن هذه المسالة ستحقق أهمية على المدى الطويل”. وأضاف: “نحن فخورون كثيرا جدا بك ونكن امتنانا لك نظرا لما تفعلينه هنا”.
ورغم أن هذه الناشطة لم تفعل شيئاً داخل بلادها، إلا ان الرسالة الامريكية البليغة واضحة فيما يتعلق بالطريقة القديمة لحكام الرياض للتعامل مع المرأة وحقوقها. فاذا لم يتحدث اوباما مع عبدالله في الرياض عن حقوق الانسان، فان بامكانه ان يبعث الرسالة القوية من واشنطن.
وفي كل الاحوال، تبدو السعودية بملكها الحالي أمام تغيرات كبيرة بدعوة خاصة وملحّة من واشنطن، بما لا مجال فيه للرفض والتمرّد، والايام القادمة ستبين كيف يكون شكل الطاعة والانصياع في الرياض للإرادة الامريكية.