فوضى شعرية
ثقافة ـ الرأي ـ
تضعنا استعادة كبريات الأحداث أمام ضرورة استقصاء التحولات في الآداب والفنون، بوصفها أركانا رئيسة في ثقافتنا، وفي مقدمتها الشعر الذي عد قديما ديوان العرب، وحاضرا عد بعضهم الشعر السبب في تمييع ثقافتنا، ووصمها انها ثقافة وجدانية… حضر الشعر وغابت الفلسفة، وبين هذا وذاك عد الشعر أرقى الفنون والآداب وأصعبها.
كثر الحديث عن شعر الحدث العملاق في نيسان 2003، لأنه حدث في بلد استثنائي في كل شيء. حديث يدور عن تساؤلات جوهرية: هل أنجب هذا الحدث شعره المستبطن والمستقرئ لتحولاته العميقة في بنية المجتمع، تناقضات وغرائب، ولادة لنظائرمارقة.. لاتؤمنبشرعية السلطة المتداولة سلميا عبر صناديق الاقتراع، لذا ستحرق البلاد والعباد! هل أنجب شعر الحدث تفوقا على لحظات الرعب في نفوس مواطنينا، وهم يتوقعون موتا شنيعا، ربما، بعد دقيقة واحدة أو بعد اجتيازهم مترا واحدا في دروب حياتهم اليومية؟ هل أنجب شعر الأمل الواعي لا العفوي، بأن أيام الفقر والمعاناة والقمع والتعامل الهمجي مع الإنسان قد ولت؟ هل صهر معانيات كل تلك العقود المظلمة من حياة ملايين العراقيين في قصيدة مفتوحة، لاتخلع كل الشروط الفنية للشعر الحقيقي، بل تزيح ذلك الغموض الشديد، الذي جعل الشعر فضاء النخبة، وأقفل الأبواب أمام جمهور عريض ينحسر يوما بعد آخر، إزاء تعقيدات الحياة والشعر معا.
كل تلك التساؤلات عن نسبية التماهي بين اخطبوطية ذلك الحدثوشعريته الخاصة به، ينبغي أن تجيب عنها النقدية الجديدة لما بعد2003، فقد درجت التحقيبات الجيلية للأدب العراقي شعرا وقصة، على أن تخلق نقادها المواكبين لها، مع الاتهام المستمر للنقد العراقي على أنه غير ملاحق لتحولات الشعرالعراقي وفرسانه خاصة أجيال ما بعد السبعينيين.
من الصعوبة بمكان قراءة المشهد الشعري الآن قراءة موضوعية، لأنه مشهد فوضى شعرية، كماهي فوضى المرحلة الانتقالية، كماهيفوضى عدم إقرار قانون حيوي للدولة والشعب مثل الموازنة الاتحادية، كل يغني على ليلاه، أما الناس أجمعين ففي ذيل الأغاني.
الشعر ويا للغرابة، بات كذلك، كهول فاتهم قطار الاعتراف بشعريتهم، ممتعضين من عدم نشر الصحافة الثقافية لنصوصهم متهمين إياهابالاخوانيات والنخبوية. فجمعوا نصوصهم بين دفتي كتاب من دون أدنى ضوابط النشر الفنية والمضمونية، تطبع مخطوطاتهم دور نشر صغيرة تحاول أن تتربح بهم فتكبر. شباب أصابهم نشر مواقع النتبالغرور، فأحرقوا مراحل التأني في الاعتراف بشاعريتهم ونيلها بجدارة، ولانعدم وجود أشباه نقاد يروجون لتلك المجموعات البائسة في صفحات ثقافية متواضعة.
سيادة الفوضى الشعرية البائسة أسهمت بها المحافل الثقافية والمهرجانات الشعرية، وأصبحت الدعوات توجه للجمع الشعري بفعل العلاقات الاجتماعية النفعية، غالبا مايخرج المشاركون في هذه المهرجانات بالـتأفف منها، ومن ضحالة مايسمى شعر مقروء على منابرها.
وقد يقول قائل: أين الأصوات الشعرية الجادة من بانوراما الفوضى، نقول..خرجت من معطف العقد الأول من الألفية الثالثة أصوات شعرية صبورة تعمل من دون ضجيج، ولكن كسل الناقد العراقي أو انزواءه عن متابعة المشهد الإبداعي بسبب الفوضى ذاتها، ربما، أسهما في تهميش الخلاصة الشعرية لجيل مابعد التغيير، شعراء الحداثة الحقيقيون منذ السياب يؤمنون أن الشعر مشروع فردي خالص لا علاقة له بالمهاترات واستعراض العضلات الشعرية والنرجسيات المريضة.
الشعر قرينة الندرة، والندرة قرينة الصبر والإخلاص والعمل بصمت، وتلك القرائن خلاصة السلوك الثقافي الراقي الزاهد بالحياة وبهرجتها ومنافعها وآنيتها.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق