التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, ديسمبر 22, 2024

السلفیة وتعطيل العقل البشري! 

علاء الرضائي
مع وجود هذا الكم الهائل من الموروث الدیني.. تفاسیر للقرآن الكریم، مجامع حدیثیة وكتب في السیرة والتاریخ، یضاف الی ذلك وجود العدید من الضعیف والدخیل وغیر الصحیح فیه، فكم كتاب جری تالیفه لارضاء ائمة الجور والحكام الظلمة، وكم روایة جری اخفاءها لانها تتعارض مع نهج وسیرة الخلفاء الامویین او العباسیین، علما ان تدوین الحدیث نفسه جری في اواسط القرن الاول الهجري وبالتحدید في عام 143، اي بعد 132 عاما علی رحیل النبي الاكرم (ص) بسبب منع التدوین الذي بدأ في عهد حكم السقيفة.

ورغم ان الموروث علی علاتة یعطي افقا واسعا في الفهم الدیني بحیث انه وعلی اساس هذا الموروث ظهرت مذاهب واتجاهات كلامیة ونحل فلسفیة وطرق صوفیة ومدارس اخلاقیة متعددة، وهكذا عاش العالم الاسلامي علی مدی قرون ممتدة حتی نحو 250 سنة مضت عندما ظهرت الدعوة الوهابیة في نجد بالجزیرة العربیة، فانها اسست لقطیعة مع التاریخ الاسلامي من خلال انتقائیة غریبة، ضیقت دائرة الرجوع من الاسلام بكل فرقه ومذاهبه واتجاهاته الی اهل الحدیث ومن مجمل أهل الحديث الی المذهب الحنبلي ثم من الحنبلية الی المدرسة التیمیة في هذا المذهب، حتی انتهی الی ما هو اضیق من قراءة ابن تیمیة نفسه! فكان من الطبیعي ان یتحول كل من هو خارج هذه الدائرة الضیقة الی اعداء ومنحرفین، یشك في دینهم وایمانهم، وایضا كان من الطبیعي ان یشعر رواد هذا النهج بالغربة في وسط بحر مائج من الافكار والاتجاهات الاسلامیة..

ومع ان فورة االنفط في جزیرة العرب وعائدات البترودولار اسهمت خلال العقود الثمانیة الاخیرة الی التبشیر بالدین الرسمي السعودي (الوهابیة ) الا ان المسلمین بدأوا خلال السنوات الثلاث الاخیرة التي اعقبت الربیع العربي الی اكتشاف حقیقة هذا التطرف في قراءة النص الدیني او هذه الانتقائیة الغریبة في التعامل مع الموروث الدیني فضیقت علی الامة سبل الحیاة وعلی نفسها امكانیة المناورة، وهنا تبین التحجر، الذي هو فقدان الشئ لمرونته وامكانیته علی الاستیعاب والهضم والتقولب.

وبدل البحث عن الحد الادنی للاتفاق، صار رفع السقف هو النهج المتبع في الاحكام، بما عسر علی الناس الدین، بدل ان یكون اليسر هو المبدأ، وهكذا فیما یتعلق بتفسیر اداء الغیر وفكره.. فالذي یقبل الكعبة او قبر ولي من الاولیاء مشرك لانه یعبد حجرا ویسجد لمیت، ومن اختلف معي في مفردة من الفروع صار مشككا بواحدة من الاصول، حتى اضحى الاقتتال على نجاسة او طهارة دم البعوض تزهق فيه الارواح وتسال فيه الدماء وتستخدم فيه مضادات الطائرات!!

یذكر المؤرخون انه عندما ظهرت حركة الاخوان الوهابية في القرن الثامن عشر قامت بتقطيع اسلاك التلغراف بدعوى ان التلغراف بدعة لأنه لم يكن في عهد رسول الله!!

ان التطرف والتحجر.. وفي الجانب الأخر التوازن او المرونة والانعطاف بمختلف مستوياته مسألة ثقافية تتعلق بالتربية والنشأة الاجتماعية.. فالطبيعة المتزمتة والخشنة للبادية وقيمها القبلية كانت من أهم عوامل نشأة الفكر السلفي المتحجر، لذلك لانجد مثل هذا الفكر في الحواضر المعرفية الاسلامية المعروفة ومناطق جغرافيا الحضارات التي شهدها العالم قبل ظهور الاسلام، لذلك من المؤسف ان تتسرب هذه الثقافة البدوية الخشنة والعنيفة الى مناطق الحضر والمدنية في شبه الجزيرة العربية وخارجها.. ومن المؤسف اكثر ان يتسرب فيروس التطرف وهذا الفكر الغير متزن الى فضاء الفكر الشيعي المعروف بحيويته ومرونته واجتهاداته وديناميته، بالرغم من ان اسباب تسلله هنا تختلف عن نشأته وانتشاره هناك (بين أهل السنة) فهنا اعتمد على الخرافة والسطحية وردات الفعل الغرائزية تجاه القهر الناصبي والظلم السني احياناً.. وبحشد الظلامات التاريخية للشيعة وكأن السنة اليوم هم المسؤولون عن ممارسات بنو أمية او بنو العباس او بنو عثمان!

ولعل من أسباب ذلك، محاولات بعض الاتجاهات الدينية الشيعية بسط سيطرتها على الساحة من خلال الاستجابة الى العقل الجمعي الشيعي وعلى حساب اي عملية تجديد او غربلة للتراكمات التاريخية والغزوات الثقافية المحلية.. واسباغ صفة القداسة على كل ما يرتبط بالطقوس الدينية والممارسات الشعائرية، فتوسعت دائرة المقدس(المحترم) لتشمل العديد من اللا مقدس او العادي بتعبير مرسيليا اليادة.

ولعله من المحزن ان نشهد اخراجا قسريا لحشود من الشيعة بسبب قراءات فقهية وكلامية متأخرة، وحتى بعض التخرفات المنبرية، كأن الذي لا يتطبر (والمسمى حديثاً بشعيرة الادماء المقدسة) او لا يمشي على الجمر وينهى عنه (اخر صرعة دخيلة على الشعائر الحسينية) لا يؤمن بالامام الحسين (ع) لأن الايمان بالشعائر جزء لاينفك من الايمان بالامام الحسين وبالتالي بالامامة والتي هي من الضروريات… حتى ينتهي الامر الى الاخراج من الدين والحكم بالارتداد والكفر!!

 

بينما كان الاولى بنا ان نحدد سقفا مذهبيا يحتضن كل من يؤمن بولاية امير المؤمنين علي (عليه السلام) او يفضله على من سواه شيعيا كان او سنياً فهناك العديد من السنة حتى يؤمنون بافضلية علي عليه السلام لما ورد عندهم من احاديث صحيحة في فضائله ومكانته.

ومثل هذا المنهج كفيل بان يردم اي هوة بين المسلمين ويقرب ويجمع ولايبعد او يفرق.

 

وفي دراسة حول المتحولين مذهبياً، ظهر ان معظمهم يكونون اكثر حدة وشدة ازاء ابناء المذهب او الفكرة التي كانوا عليها من قبل، مقارنة باخوتهم من ابناء المذهب الذي تحولوا اليه.. أما المتطرفون الوهابية والتكفيريون القتلة فمعظمهم من اصحاب السوابق وقد انتهوا الى التكفير والتطرف ليجبوا ما سلف! ما يذكرني بمقولة منسوبة الى الدكتور علي شريعتي: مسكينة المرأة لاتمتلك ذقنا حتى تطلقه للتغطية على خطيئتها السابقة!!

ان تضييق الدائرة يعني انك تمثل الطائفة الناجية التي تترك الطوائف الاخرى طعمة لنيران تصوراتها، في عملية انتصار ساحق وسباق لامتلاك وبتعبير ادق احتلال الجنة التي تمتد بامتداد السماوات والارض وطرد الآخرين منها!!

في حين لو نظرنا الى الاسلام وفق المنهج المحمدي الاصيل سنجده يجمع ولا يفرق، يوسع ولايضييق، يقرب ولايبعد ” قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله”، وشعاره “قولوا لا اله الا الله تفلحوا”، و”المسلم من سلم الناس من يده ولسانه”، وقد تجلى في عصرنا الحاضر باروع واكمل صوره بالمجدد الفذ والعارف الكبير والفقيه الثائر، الامام روح الله الموسوي الخميني (طاب ثراه) الذي لم يتحدث عن مذهبية ولاعن مجرد اسلامية، بل كان خطابه بوسعة الانسانية على اختلاف اتجاهاتها وانتماءاتها واديانها ومذاهبها وشعوبها، كان خطابه للمستضعفين في مواجهة المستكبرين وللمحرومين والحفاة في مواجهة الرأسماليين والمترفين، كان ينظر الى الجميع حتى اعداءه بانهم ساعون الى الكمال لان الله اودع ذلك في حقيقة وجودهم لكنهم ظلوا الطريق..

الخميني كنهج يجمع ولايفرق، يحسن انتقاء الكلمة السواء مع الاخرين، يترفع عن صغائر الامور في الاصطفافات الكبرى، خطابه لايعتمد الاستفزاز والتلاعن والتشاتم، صلب عندما يستوجب الامر الصلابة، ولين في غالب الاوقات يبحث عن الحلول.. لا يؤمن بتعطيل الفكر والهروب من الواقع والاكتفاء بالنقل، فيتقوقع بقال فلان والى ذلك ذهب علان!

انني افسر قوله صلى الله عليه وآله ـ اذا صحت الرواية ـ بان قرني افضل القرون.. لانه القرن الذي انتج فيه المسلمون طريقة ونهجا في الحياة وبقيت الامة ـ وللاسف ـ عاطلة تكرر صناعته بشكل مشوه دون ان تقدم هي قراءتها ونتاجها وفقا للمبادئ الاساسية التي قام عليها الاسلام وطمحت اليها الشريعة...

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق