المبعث النبوي والانبعاث الفكري الجديد
نحتفل بذكرى المبعث النبوي الشريف لأنه قدم للإنسانية نهجاً جديداً في الحياة غير ما كانت عليه في القرون الغابرة، حيث مفهوم “الغلبة للأقوى” في المال والقبيلة والسلطة، وتحكيم القيم المادية البحتة وقتل القيم الأخلاقية والإنسانية. وعندما نفتخر أمام العالم بأننا اتباع نبي عظيم تمكن من صياغة حضارة اسلامية خلال فترة قياسية جداً في مسيرة الحضارات. وذلك لأن نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، تمكن ببراعته وعبقريته الفريدة، من صياغة فكر جديد للإنسانية – وليس فقط لإنسان الجزيرة العربية- قائم على المبادئ والقيم والموازين التي لا تحيد عن الحق قيد شعرة مهما كانت الظروف.
هذا الفكر، هو الذي شيّد المنظومة الاخلاقية والدينية وزيّن المفاهيم الانسانية بحلّة رائعة أبهر بُناة الحضارات الاخرى والأمم التي كانت سائدة آنذاك. فرأت في التسامح والتآخي والتواصي والصدق والأمانة وغيرها، ضمن منظومة متكاملة في كيان أمة واحدة، ما أوغرها شعوراً بالضِعة والجهل ما لم تفطن اليه من قبل. وهذا تحديداً ما أسفر عن {الدخول في دين الله أفواجاً} ، وتبني ليس فقط الدين، طقوساً وشعائر، إنما فكراً لصياغة حياة جديدة.
لكن؛ ماذا عنّا نحن اليوم…؟!
هل سنحتفل بمرور (1435) عاماً، تضاف اليها الاعوام الثلاثة عشر لوجود النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله في مكة، على تبنينا “الفكر الإسلامي” الذي يفترض ان يربطنا بتلك الحضارة التي أشاد بها مفكرو وزعماء العالم، وبتلك الحياة النموذجية التي تطلّع اليها النبي منذ الايام الاولى من بعثته الشريفة؟.
نعم؛ ربما نحتفل ونفتخر بوجود أطر فكرية جميلة وجذابة لمختلف جوانب الحياة؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى الإنسانية، فلا أحد منّا يتنكّر للعدل والأمانة والصدق والمساواة وغيرها، لكن هذه الأطر – للأسف- بعيدة عن واقع الحياة التي تعيشها الأمة، حيث الظلم والخيانة والتمييز والفساد وغيرها من الإسقاطات، التي تكاد تهيمن على حياة الناس.
ولنا ان نتساءل حقاً؛ لماذا لم ينهض المثقفون والمفكرون، لاسيما في القرن الماضي، الذي شهد ظهور تيارات فكرية وثقافية، في تقديم صياغة فكرية جديدة في ضوء المبعث النبوي الشريف، ليس فقط لإيجاد الحلول للأزمات، إنما لتحصين الأمة من أي انحراف او فساد او تفكك، وبالنتيجة؛ لاستعادة تجربة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله؟.
وأجدني ملزماً بسؤال آخر في السياق ذاته: ما الذي يجعل مفكرون غربيون ومستشرقون، يهيبون بشخصية نبينا الأكرم، للنهضة الفكرية التي اقامها في الجزيرة العربية، وبها صاغ انساناً جديداً، وبه شيّد حضارة شامخة؟.
يقول العالم الامريكي “مايكل هارت” في مقدمة كتابه: “العظماء مئة”: “.. هناك رُسل وأنبياء وحكماء بدأوا رسالات عظيمة، لكنهم ماتوا دون إتمامها.. لكن محمداً هو الوحيد الذي أتمّ رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وأمنت بها شعوب بأسرها في حياته، ولأنه أقام الى جانب الدين، دولة جديدة، فانه في هذا المجال الدنيوي ايضاً، وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها..”. ومن نافلة القول ان نستذكر مقولة المفكر والناقد المسرحي البريطاني الشهير “برناردشو”: “لو كان محمداً بيننا اليوم لحل مشاكل العالم وهو يرتشف فنجان قهوة”. هذا التعبير الجميل والإقرار بعظمة نبينا الأكرم، يأتي من شخصيات لا تفكر بحال الأمة ومستقبلها، لأن لا يعنيها الأمر، بينما الامر مختلف بالنسبة لنا قطعاً.. أليس كذلك..؟!
لنتفق على أن البعثة النبوية تمثل منبعاً نقياً لا ينضب للفكر الإنساني والديني، وكل ما يهم الانسان من معارف وعلوم وثقافة، ثم لنلاحظ الفاصلة البعيدة مع الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد اليوم..
يؤكد بعض المفكرين الإسلاميين أن جوهر “الديمقراطية” ليس غريباً عن الإسلام بشيء، إذا لم نقل أنه ترجمة حديثة توصل اليها الغرب – من حيث لا يريدون – للمفاهيم والقيم الإسلامية الخاصة بالعلاقة بين الشعب والحاكم، أو بين القاعدة والقيادة. لكن المفارقة أن الديمقراطية في معظم بلادنا تنتج أنظمة ديكتاتورية وتصنع حكاماً ديكتاتوريين بامتياز.
ومن ابرز ما يجب الاشارة اليه في هذا الحيّز المحدود، الأزمة الحادة التي تعاني منها الأمة حالياً في الفكر الديني بسبب ابتلائها بداء التطرّف والتعصّب.. فأين المتشدّقين بالدين وأحكامه وتعاليمه، من سيرة النبي الأكرم، وهم يدّعون كذباً وزوراً إتباعهم “السيرة والسُنّة”؟، وما هي العلاقة بين التكفير والذبح والحرق والتسبب في دمار شعوب وبلاد بأسرها، وبين الجملة التاريخية التي هتف بها نبينا الأكرم، لدى فتحه مكة: “من دخل داره كان آمناً..”؟.
هذا النهج التكفيري لم يكن لولا الخطأ الفاحش الذي ارتكبه بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي، بتكرار تجربة “الخوارج” وعدّهم أناس مفكرون ومتنورون..!. لذا لم يكونوا بحاجة الى الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، حتى وإن كان محاطاً بمئات “الاحاديث النبوية الصحيحة” التي تجعله مع الحق أينما دار. وإذن؛ فالاسلام – حسب هؤلاء- ما يفهمه ويريده الانسان حسب ظروفه واوضاعه، وربما مصالحه، وليس كما أراده نبي الإسلام ومن أجله قدم التضحيات الجسام وتحمّل الأذى والمحن ما لم يتحمله غيره من الانبياء والرسل عبر التاريخ.
ان البعثة النبوية الشريفة تدعو المسلمين في كل مكان لإعادة النظر في أمر منظومتها الفكرية التي تشكل – كما يعرف الجميع- العقل المدبر لنظام الحياة، فان كان سليماً وصحيحاً، كانت الحياة في مختلف جوانبها ونواحيها، سليمة وماضية الى الامام، والعكس بالعكس قطعاً.. وبما ان الدعوة للمسلمين وأن القضية تهمّ الجميع، فان مسؤولية تحقيق هذا الهدف على الجميع ايضاً، وليس أدلّ من تصريح القرآن الكريم في “سورة آل عمران”: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ}.