(الحالمُ .. بثياب المهنة) توظيف السرد في معمار النص الشعري
علي كاظم داود
منذ الملاحم والشعر العربي القديم، مروراً بعصوره المتعاقبة، حتى عصره الحديث، وللسرد مكانة متصاعدة في بنية النص الشعري. فقد فرضت الظاهرة القصصية نفسها بقوة، بوصفها شكلاً من أشكال التعبير عن الذات، ومجالاً لتمثيل الوقائع الاجتماعية أو نسج وقائع على غرارها، ونمطاً مهماً من أنماط التخييل في صناعة عوالم الأدب. ولم تتخلّف الذات الشاعرة عن الاندراج تحت هذه الكلّية، فكان من مميزات النص الحديث أنه تمثّل فنون أخرى عديدة، أكثر من سوابقه، وقام بتوظيف تقنياتها وترميزاتها، انطلاقاً من كونه نصّ فكرة أكثر منه نصّ صورة. وكان السرد من بين فنون القول التي تَمَثلها؛ لتوسيع مدركات فضاءاته الشعرية، والدخول إلى مناطق تجريب حديثة يولدها هذا التوظيف، فضلاً عن خلق أجواء مشوّقة وجاذبة للقارئ هي مما ينتجه الفعل الدرامي للسرد، بعد أن اعتُمِد كثيراً كبنية منظّمة لتشكيل معمار النصوص الشعرية، أو النصوص النثرية التي تفيض بلغة الشعر.
في مجموعة حسين الهاشمي الأخيرة، والتي حملت عنوان «الحالم .. بثياب المهنة» والصادرة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، عام 2012 في 144 صفحة من القطع المتوسط، والتي اشتملت على سبعة وأربعين نصاً، يمكن القبض على العديد من المقاطع التي تقدم لقطات حكائية، وتؤكد نزعة النص النثري نحو السرد، والتصاقه الشديد به. حيث يعمد الهاشمي إلى ترتيب الأفعال المنتجة حكائياً لبناء جمل سردية، ستشكل في أحيان كثيرة ـ لو اقتطعناها من سياقها ـ نصوصاً قصصية قصيرة جداً، أو بتعبير اقرب إلى أجواء الشعر «ومضات قصصية» … مازجاً ذلك بنبرة شعرية عالية، ما هي إلا صدى للمفردات والتراكيب المشعّة، والنسيج اللفظي الإيحائي الذي تتسم به نصوصه.
ومع أول النصوص «عناقيد يومية» تواجهنا هذه الصورة المكثفة، والمبتنية على شعرية السرد، فيقول:
«الأسى
من دون ضجيج …
يولدُ من رحم الأزقة
وتستطيل عيونه بحثاً عن الشمس».
وإذا كان السرد بنية لغوية ينتجها الفعل، أو ما يتضمن معنى الفعل، فإن سردية هذا المقطع تنبع من الفعلين(يولد، تستطيل) ومن المصدرين الدّالّين على الفعل (ضجيج، بحثاً)، فاكتسب الأسى قدرة التشخيص أو الأنسنة، عبر ما أضفته عليه هذه المفردات من إمكانية الفعل، في فضاء يأخذ بتلابيب الحكاية ليوسع مدلولاتها. فهو يولد، من دون ضجيج، من رحم الأزقة، بوصفها فضاءً حكائياً، وتستطيل عيونه، بحثاً عن الشمس، مصدر الضوء والأمل والحياة. وبرغم أن الشكل الناجز قد أدى المهمة، إلا أني أرى بأن استبدال مفردة (عيونه) بـ (عيناه) أقرب للأنسنة، وأن (تستطيل) مفردة خافتة شعرياً.
في كثير من نصوص مجموعة (الحالم .. بثياب المهنة) يبرز السرد محوراً مهماً تدور حوله اللغة المكثّفة والصور الشعرية، لكنه سرد يتجاهل المكان والزمان الواقعيّين، بوصفهما هوية نصيّة يمكن الركون إليها، لذا تعمد هذه النصوص إلى خلق فضائها الداخلي البديل، والذي لا يتجاوز ممكنات اللغة، لإنتاج أمكنة وأزمنة افتراضية، محيلة المتلقي إلى مركزية الذات، كونها نقطة الانطلاق باتجاه الموضوعات التي تعالجها. وقد تتشارك هذه الذات ذاتاً مرآوية أخرى في صناعة الحدث، بهدف خلخلة المستويات الدلالية للسرد وتوسيع المرامي الشعرية للمتن.
ولنعاين هذا المقطع من نصّ بعنوان «من دون احتراس … أيضاً» ، إذ يقول:
«في الرِّحلات التي تُرجِئ الضفة
طالما رأيتهُ
يحتمي بالعاصفة من خيانة الشراع …
مثلما أمنيةٌ ساذجةٌ
تطفو على لوحٍ
وتأبى قوارب النجاة».
في هذا المقطع تواصل الأفعال ومشتقاتها لعب دورها لصناعة مشهد سردي، إلا أنّ الإضافة المهمة هنا تكمن في تعدد الشخصيات، فثمة شخصية أولى هي السارد، المشارك في صناعة الحدث، يفضحها الضمير الفاعل في (رأيتهُ)، وشخصية ثانية هي المسرود لها، تتجلى في ضمير الغائب، المرئي. وأكاد أجزم أن هذه الشخصية لا تتعدى عن كونها انعكاساً مرآوياً شاعرياً للشخصية الأولى، لكنها، برغم الانزياحات الشعرية العديدة، والغموض الذي تصنعه اللغة بانحرافاتها الدلالية، قد اقتربت بالنص كثيراً من خصائص النثر القصصي.
المكان هنا ضفاف مؤجلة، وأشرعة خائنة، فلا وجود له في الواقع، والافتراض المكاني هو كل ما يمكن أن يقدمه لنا النص، مثلما هي بقية نصوص حسين الهاشمي، كما نجد أنها تسبح في اللازمان، لتتعدى بذلك كل الحدود، ولتنفتح على الممكنات الإنسانية في كل العصور.
النبرة الحكائية في هذه المجموعة تُؤثث، تخيليّاً، قناةً للتواصل مع المتلقي، فهي تستفزه لكي يترقب ما تفرزه فاعلية السرد في النص. فهذه النبرة تقترب كثيراً من أحد جوانب الواقع المحكي، حيث أن الإنسان يعتاش، سماعياً، على رواية الحدث، وانتظار المشوّق منه. وهذا ما يتجلى في المقطع الآتي من النص السابق نفسه:
«لهذا أغفو…
لهذا أعود من أول جملةٍ مضيئةٍ
أُلقيت
على مجاهل العميان
ومعاقل الجنود الذين عادوا بلا أوسمة».
فتُكرّس لام التعليل، في صدر المقطع، بلاغة الحذف، حيث تحيل على محكي سابق محذوف، يشارك القارئ إنتاجه من خلال التفاعل مع المحكي التالي، الذي تمثل فيه الجملة الأخيرة «ومعاقل الجنود الذين عادوا بلا أوسمة» نقطة تفجير دلالي على قدر كبير من الأهمية، فتختزل الكثير من المآسي، جراء حروب خاسرة، لم تخلّف سوى الويلات على مستوى الوطن، والفقد والإعاقات على المستوى الفردي، كالعمى الذي أتى على ذكره، ولذلك تهفو النفس إلى العودة لمواطن الراحة والدعة متوسلة بأول جملة مضيئة.
يتشاكل السرد في نصوص المجموعة، في إطار لغتها المتّسمة بالرمزية العالية، والمفعمة بالإحالات وبُعد المقصديات وارتباطاتها بالمرجعيات النصّية أو التناصّية، والتي ينصرف فيها الكاتب إلى تعميق دور المجاز اللغوي وتوظيف شتى أشكال الانزياح، حيث تلعب الكنايات والاستعارات والأدوات المعنوية الأخرى دوراً مهماً في توليد فضاءات النصوص.
ولنرَ ما تصنعه اللغة الشعرية في هذا المقطع، لتطويع السرد:
«أحياناً
يُطلّ تمثالٌ جريء
يُهدي مدفعهُ
وجواده
لرجلٍ يرغب بالعودة
إلى ……
بيته».
فما الذي يفعله رجل يروم العودة إلى بيته بمدفع وجواد؟ وهل هي هدية جديرة بالقبول من تمثال ما، حتى لو كان متصفاً بالجرأة؟ الحكاية هنا تبتني على عنصر المفارقة الذي يصنعه الانزياح الشعري، فالنص يهزأ من ذلك التمثال ذي العقل المتحجر، رامزاً به لدكتاتوريات مغامرة لا تأبه لرعاياها الذين تلحّ عليهم رغبة العودة إلى منازلهم، وتحسبهم مجرد جنود في ساحات المعارك الخاسرة، يمارسون عنها الحرب بالنيابة.
وإذا كان الإهداء احد عتبات التعرّف على مكنونات النص، واستحضار مرجعياته التأويلية، فان إهداء نص «رحلة ما» للقاص والروائي العراقي لؤي حمزة عباس، يرمز إلى ارتباط هذا النص بمرجعية سردية، وهذا ما أكده النص ذاته، حيث يقول:
«عاد
أمسك به الهواء …
استيقظ
أمسك به الضوء …
تشبّث
أمسكت به قشّة الحلم
ورأى حوله محطةَ هاويةٍ
وحقيبة على انفراد
لرجل طليق مغمض العينين».
وفي النص استعادة لعنوان مجموعة لؤي حمزة عباس القصصية «إغماض العينين» ، ولرمز كثيراً ما يستعمله هذا الكاتب في مختلف سردياته الروائية والقصصية، ألا وهو المحطة ، فان التعالق الرمزي للإهداء واستدعاء هذين الرمزين السرديين، إضافة للمساحة التي أخذها الفعل في النص، ولّدت فضاءً حكائياً يختزن مقداراً كبيراً من الدلالات المنتجة للمعاني.
اللغة الشعرية لها خاصية مطاطة، تتسع باتساع القراءات والتأويلات والخيال القارئ. وفي النص المتسم بالشعرية تتسع سلطة المتلقي كثيراً، ويكون هامش تصرفه كبيراً لإعادة تشكيل مداليله. وهذه الخاصية تنسحب على السرد في غضون النص، إذ لا تكتفي القصة الشعرية ـ إن جاز التعبير ـ بمنطوقها، بل تعتمد على القارئ لرسم بقية مجرياتها المحذوفة.
ولنا أن نقول أن النص المعنون «سيرة ذاتية لظلّ عائم» يُجسّد سيرة حياة حكائية، بلغة شعرية، لا تقول كل شيء، بل تكتفي بالتلميح فقط، فنقرأ:
«جاؤوا به ليهدأ في ثياب من تراب
لكني أراه
مرةً يقفزُ على رفوف غيمة
مرةً يهبطُ على منجمِ نهر
ومرةً يشرب الشمس
كي يختبئَ تحت ثمالة ظلّه».
وهنا يعود صوت السارد ومنظوره للتحكم بمجريات السرد، حيث يروي سيرة فقيد، أحسب أنه شاعر أو كاتب، لم يكن يأوي إلا لثمالة ظله، برغم تنقله بين ما تهطله رفوف الكتب عليه، وبين ما يستخرجه من مناجم المعاني، أو ما تغدقه عليه منابع الضوء والدهشة. ولذا، وتأكيداً لما ذهبنا
إليه، يقول النص في موضع آخر:
«الذين تركوه
علّقوا ملامح بحّارٍ
يطلق الندم هبوباً
لزورق ورقي ))
فتواصل الحكاية، بنبرتها الملحمية، رثاءها، عبر سرد وقائع تخص ذلك الكاتب، الذي يحمل ملامح بحار، باختزال شديد، يدفع المتلقي للجزم بان هذا الزورق الورقي كان يبحر في فضاءٍ من الكلمات، وتحرّكه رياح الأفكار.
نجد أحيانا لغة السرد تعلو على ما سواها، مبررة الحدث، في تراتبية منطقية، لكنها تناسب الأجواء المُموّهة شعرياً. فيقول، مثلاً، في نص «أمطار»:
«هؤلاء
وحدهم أمسكوا بالمطر
لأنهم كانوا يحلمون…
وحدها
قطرات دمائهم
ليست بحاجة للمظلات».
الجزء الظاهر من الحدث ـ في هذا المقطع ـ يفضح بوضوحه عظمة الجزء المضمر منه. فالأحلام التي حملوها وأخلصوا لها هي ما بلغ بهم منزلة من بمقدورهم الإمساك بالمطر، رمز النقاء والعذوبة والعطاء والخصب. هؤلاء الذين بذلوا دماءهم من أجل تحقيق أحلامهم السامية، لولا هذا البذل اللامشروط واللامحدود، وتلك التضحية العظيمة، لما توصلوا لهذه المنزلة، ولما صار بأيديهم منبع العطاء الذي لا ينضب.
من خلال هذه المقاطع التي عرضنا لها كنماذج لفاعلية السرد في مجموعة (الحالم .. بثياب المهنة)، نجد أن هذه الفاعلية قد حققت صدعاً في حدود أسلوبية التعبير الشعري داخل النصوص، لتبلغ بها مناطق تعبير جديدة، تآزرت فيها جماليات الحدث السردي وبلاغة اللغة الشعرية، لتوثيق الصلة مع قارئ يجيد سبر ما وراء النصوص
في ثقافة وفن