أرنست همنغوي.. كما هو في رسائله
ثقافة ـ الرأي
يشكل الحديث المتعلق بإكمال (الشمس تشرق أيضاً)، رواية همنغوَي الأولى، الجزء الأخير من المجلد الثاني من رسائله، الصادر حديثاً، الذي يجمع مراسلاته من العام 1923 إلى 1925 ( ويتضمن المجلد الأول، المنشور في العام 2011، رسائل من 1907 إلى 1922)، كما جاء في عرض جوشو كوتين لهذا المجلد.وتوثّق الرسائل لتطوره ككاتب، ولحياته في باريس وتورنتو (حيث اشتغل مراسلاً لصحيفة Toronto Star)، وأسفاره عبر أوروبا، وزواجه من هادلي ريشاردسون، وولادة ابنهما، وصداقاته وشجاراته مع أدباء كثيرين.
وتمثّل الرسائل صورة للزمن الواقعي من كتابه ( وليمة متنقلة)، تجمع بين رومانسية المذكرات والوصف الاغتيابي لحياة مغتربة مع إحساس قوي بعدم الاستقرار. ويصف همنغوَي حياته هنا ككاتب مكافح من دون معرفةٍ منه بنجاحه المستقبلي.
ويبدأ المجلد العام 1923، وهمنغوَي في سن 23 عاماً، وهو يقضي الشتاء في سويسرا مع هادلي. ويعودان إلى باريس في آيار، و يرحل هو إلى أسبانيا ليرى مصارعات الثيران لأول مرة. فيكتب إلى صديقه وليام د.هورن قائلاً:” إنها ليست بالأمر الوحشي كما قيل لي. إنها تراجيديا عظيمة ــ وأجمل شيء رأيته على الإطلاق … إنها تشبه الجلوس في مقعد جانبي في الحرب من دون أن يحدث لك شيء.” وستهيمن مصارعات الثيران على رسائله للسنتين التاليتين. ويقول في العام 1924 لصديقه أزرا باوند أن حلبة مصارعة الثيران ” هي المكان المتبقي الوحيد الذي تتوحد فيه البسالة و الفن من أجل النجاح… “
وفي صيف 1923، في محاولة منه لادخار النقود، ينتقل إلى تورنتو مع هادلي، الحامل في الشهر السابع آنذاك. ويقول في رسالة إلى إيزابيل سيمونس، صديقة طفولته، إنه يكره مغادرة باريس إلى تورنتو مدينة الكنائس. وفي باريس، يركز على الوقت الكامل لمهنته الأدبية. وتبدأ رسائله بتوضيح أحداث بارزة في تاريخ الحداثة: نشر مجموعته القصصية (في زمننا)؛ وعمله لمجلة ترانزاتلانتك ريفيو؛ و إنتاج العدد الأول من This Quarter، و أمور أخرى.
إن صورة همنغوَي التي تظهر من الرسائل صورة مألوفة. فهو طموح وواثق، مفعم بالحيوية وشعبي، منضبط وموهوب. وأكبر مفاجأة هي تكييفه صوته بخبرةٍ لإرضاء توقعات جمهوره. وعدا بعض الإشارات المتضاربة المعبرة، في رسائله، عن شيء من الاستخفاف الشوفيني، فإن كتابة همنغوَي تؤكد نوعاً ما إحساسه الشهير بالأصالة. فالاهتمام الأول في رسائله ينصب دائماً على الفن. ويأتي الأصدقاء والأسرة في مقامٍ أقل أهميةً.فحين يتوقف شتاين عن مراجعة كتابه ( في زمننا)، يُنهي همنغوَي صداقتهما. وعندما يكتب أندرسون رواية رديئة، يهزأ منه بقسوة. وكان هدفه المفضّل في السخرية صديقه فورد. والشخص الوحيد الذي يبقى سليماً منه هو باوند ــ ربما لأنه مخلص على نحوٍ أشد تعصباً للفن.
و معظم الرسائل مكتوبة بعجلة، وتحتوي، مع هذا، على شيء من أكثر كتابات همنغوي شداً للانتباه. وإليكم منها:
•” إنني أحاول في كل قصصي التعبير عن الشعور بالحياة الفعلية من خلال- لا وصف الحياة فقط ــ أو نقدها ــ وإنما جعلها فعلياً متدفقة بالحركة والنشاط. “
• ” المسألة ليس أن تكون لك عشيقة بقدر أن تكون لك علاقة حب. يجب أن يكون الحب باتجاهين أو أن المشهد لا يكون جيداً. “
• ” قدوم الشتاء يشبه بطلة من بطلات جيمس جويس. “
و تتّسم رسائله إلى باوند بالفتنة على وجه الخصوص ــ على الرغم من خبثها، وأو ربما، بسببٍ من ذلك. فهو يقول لباوند في إحداها:” إنك تمضي قُدماً وتتعلم كل شيء. أنا لا أستطيع. إنني محدود. لكنني سوف أقوم بتعلم أشياء عن الجماع والكفاح والأكل والشرب والاستجداء والسرقة والعيش والموت. ” وتحيط هذه الجملة بالشكل و المضمون الذي ينطوي عليه أفضل نتاج لهمنغوَي.
فهل يغيّر الكتاب بشكل أساسي من فهمنا لهمنغوَي أو فنه أو الحداثة أو الأدب الأميركي؟ حين قرأت المجلد للمرة الأولى، ظننتُ أنه يمكن أن يقدم وجهة نظر جديدة راديكالياً عن الفترة الأكثر أهميةً من مسيرة همنغوي وإحدى الفترات الأهم في التاريخ الأدبي و الثقافة الأميركية: باريس في العشرينيات. لكن الجواب لا.فبالإضافة إلى التبصّر في إنشاء همنغوَي لأصالته، تُكمل الرسائل، أكثر مما تنقّح، الميثولوجيات التي هذَّبتها وحللتها منتجات لا تعد ولا تحصى ــ روايات، ومذكرات، وأفلام، وكتب سيرة حياة، وبالطبع كتابة همنغوي ذاتها.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق