بغداد وإثارة الأسئلة
بغداد ـ ثقافة ـ الرأي ـ
1
لما عدت لبغداد بعد قضاء أشهر للعلاج في هولندا، اكتشف مستوى جديدا من المدينة، وقد اختفى تحت ركام خرائب المكان واللغة، فأصبحت بغداد نصاً غائباً، ونصاً مختفياً تحت ركام بغداد القديمة. هذه الحال ليست وليدة المرحلة الحالية فقط، إنما وليدة سنوات الحروب، منذ العام 1963 وإلى اليوم ونحن نعيش بغداد المندثرة تحت ركام المزابل والعشوائيات والمشاريع المتلكئة. وكل حرب تترك آثارها فتغيب حاضرا في ماضيها، وتستدعي الماضي ليس من أجل النهوض، كما فعلت أوروبا بعد حروبها المدمرة، إنما ليبقينا الماضي حبيس الأفكار العاجزة عن الإجابة. فكلما أعود وأبحث بكاميرتي عمّا كنت قد شاهدته أجده قد انمحى. أسواق الشورجة القديمة، حيوية البياع، خفايا المنصور، تألق راغبة خاتون، أسرار البتاويين، أنشطة باب المعظم، أسواق العلاوي، مكتبات الباب الشرقي، السينمات، المسارح، الحدائق، أغاني السكارى والمتجولين، كازينوهات ومسكوف أبي نواس. وعشرات الأمكنة التي كانت تستحضر ماضيها عبر حاضرها.
2
اليوم يهيمن الماضي علينا، لا ليفسر حاضرنا، بل ليرسم مستقبلنا، وبما أن تراثنا كما يقول السياب” كل ماضينا أنصاب طين” لم يعد المستقبل إلا تكراراً لهذه الأطيان، فكل ما ينشد لبغداد هو أن تكون صورة” نكتف” للماضي. مدينة لا تصلح ذاتها، لأن الإصلاح يعني التغيير، والمسؤولون لا يعرفون التغيير إلا وفق نظرة أن تكون المدينة بتاريخ قديم، وهكذا يبقون عباءات ودموعا.
بعد الحرب العالمية الثانية، أعيد بناء ألمانيا، بقليل من العمالة التركية وبكثير جداَ من النساء الألمانيات، اللائي تركن مطابخهن وأفرشة نومهن ونزلن للشارع، للعمل والبناء. لو كنا حريصين بالفعل على بناء بغداد، لكنا طلبنا من كل عابر منها إليها أن يرفع قمامة بيته لكانت المدينة عامرة، ولطلبنا كل عابر منها إليها أن يرفع اللافتة السوداء بعد انقضاء العزاء، والسؤال كيف يمكننا أن نبني ونحن مسكونون بالعمى لما يحدث في العالم؟ وبالمعنى المباشر، “كيف يمكننا أن نسكن الخرائب؟ مالذي نهدمه منها؟ وما الذي نحتفظ به؟ مالذي نعيد بناءه، مالذي نبنيه؟ تلك قرارات وأفعال تفضي إلى علاقة مع الزمن. من الذي يبهر البصر إلى هذا الحد بحيث نجهد في ألاّ نراه؟ “
3
هكذا وبلمحة زمنية تغيرت برلين من مدينة الجدار والذكرى، إلى مدينة تعرض نفسها على الرؤية، مدينة بعلامات نظم أزمنة مختلفة تعيد “نبض قلب تاريخ أوروبا من جديد”. نحن بحاجة إلى نظام إسلامي للزمان، علّه يعيد لنا الإسلام النظامي الذي أعاد بناء المدن العربية كلها، فالخلل في عدم فهمنا ان نظام المدن جزء من النظام المديني العام، النظام القابل على أن يكون منفتحاً على العمران والحداثة، النظام القائم على محو كل ما لا ينسجم ومتطلبات الحاضر، فالمدن العراقية لا تبنى بعقلية تحويلها إلى نصب من الطين كي نجعل الناس تعيش حاضرها فيها، وإلا ما معنى أن تمضي على بغداد والبصرة كل هذه السنين ولا يرى فيها غير الأرصفة البائسة والأنهر القذرة والبناء الكالح اللون والخضرة السوداء؟.
4
نحن شعب نريد من يصطحبنا إلى العالم الجديد وينقلنا من نصب الطين إلى الحدائق والمتنزهات والموسيقى والكرنفالات وكثرة الأعياد. والسؤال هل ثمة تركيبة عقلية جديدة نتلمسها بعد الانتخابات رافضة لكل ما يعيقها عن الاستمرار؟ فبغداد، هذه المدينة الممحوة بإرادة مسؤوليها؛ لم يبق منها إلا اسمها، وإلا فشأننا دائما عرضة بانتظار عاصفة ترابية تمحو ما تبقى منها.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق