التحديث الاخير بتاريخ|الجمعة, نوفمبر 15, 2024

هوامش على تاريخ القراءة 

ثقافة ـ الرأي ـ

حملتُ معي من الكويت كتاب (تاريخ القراءة) تأليف آلبرتو مانغويل، بطبعته الرابعة (ترجمة سامي شمعون، دار الساقي2013). اقتنيت الكتاب من إحدى مكتبات الكويت التجارية، وكان رفيقي في سكناي التي استغرقت أسبوعاً في فندق ريجنسي، على ساحل البحر الأزرق.

كنت مستغرقاً في واقع السكنى المريحة، بين بحرين: بحر “اللؤلؤ والمحار” السيابي، وبحر القراءة المرموز له بأكثر من صورة وتخطيط في كتاب مانويل؛ بين غربتين: غربة الوطن التي أمرضت الشاعر العراقي، وغربة الأشواق التي أغرقت فرجينيا وولف في بحرها: “إن الرغبة في القراءة، مثل جميع الأشواق الأخرى التي تحير أرواحنا التعيسة، قادرة على التحليل”، حين أوجبتُ على نفسي تحليل التجانس بين الكلمتين العربيتين: الغربة والرغبة، وطبقته على موقعي بين الموقعين.

إن قلة من القراء الذين يشركهم قول فرجينيا وولف في بحره، يتبحرون في مغزى الرسالة الذي يخفي تجانس الكلمتين، أو وعيد الموت الذي تحمله حروفها كما حملتها رسالة المتلمس في طريقه إلى عامل النعمان على البحرين؛ فكلتا الرسالتين تحمل شوقاً غامضاً يقود الروح التعيسة نحو المجهول. ولم أجد توصيفاً يصل الغربتين (الشرقية والغربية) في مجمع واحد، أفضل من القراءة التي تحملنا من مكان إلى آخر، على محمل الولع والمتعة مرة، وعلى محمل البحث والتحليل أخرى. وهذا درس الكتبيّ آلبرتو مانغويل السابق على كتابه الأول (المكتبة في الليل)، وكلاهما ليس إلا نقطة وهمية في بحر القراءة المتسع، لا يبلغها التحليل في رحلة الأشواق وغربة الروح، مهما كان بليغاً.

لم يقدم آلبرتو مانغويل في (تاريخ القراءة) درساً تشريحياً للغز الإبصار والإدراك في مراكز الدماغ فحسب، ولا تأريخاً عريضاً للألواح واللفائف والمخطوطات في مكتبات العالم القديم، زيادة على ذلك، أو سرداً غزير المصادر لطقوس القراءة والتلاوة من الكتب المقدسة وكتب الصلوات والتفاسير أيضاً؛ بل أصبحت هذه البدايات والمداخل المزودة بالصور واللوحات تحليات أسكولائية لعملية تحليل مجازية أكبر خطورة وأشد تأثيراً في تجارب القراء والكتّاب الموزعين على طرفي تاريخ القراءة الكبير، القديم والحديث، المسيحي والإسلامي. بعبارة جامعة فإن تاريخ القراءة يلخص مراحل التنوير المصحوبة بأبرز مجازات العمليات الأربع للقراءة: الطباعة والفهرسة والترجمة والتفسير، وقد انصهرت في ذاكرة رجل المكتبات الليلية والأدراج التلمودية، باعتباره قارئاً رمزياً لكتاب تاريخي هو مؤلفه.

كانت القراءة نسبة إلى مانغويل تأريخاً للذات، سرداً لوعيها بكونها، واتخاذ هذا الوعي مناراً للسفر أبعد من تخوم الرفوف المقروءة وغير المقروءة، الهدوء والطمأنينة، المعرفة المعطاة بأقل قدر من الحركة، وأعلى جهد من البحث والتحليل.ونستطيع أن نعتبر كتاب (تاريخ القراءة) دليلاً لقارئ مسجون بين جدران مكتبة بلا إرادة أو بصيص من ضوء، حُكِم عليه بالشقاء والحرمان والوحدة، في مدينة بلا حروف، أو قلب، أو تاريخ. وهذا الحكم يساوي حكم قارئ لم يقرأ تاريخ مانغويل، فكأنه قارئ لم يقرأ حرفاً في كتاب من قبل. لذك ذكّرت نفسي القارئة وطمأنتها بهذين الحكمين لكيلا يستولي غرورها على شوقها، وجهلها على علمها. إن كتاباً لم أقرأه بعد لا يعني أن هذا الكتاب غير موجود، إذ لا يجوز أن استبدل ظلمة المكتبات بغربة الأسفار ومجازات الأشواق التي هدتني صدفة إلى سرّ مكنون في كتاب مجهول.

أتاحت الطباعة لكل قارئ أن يمتلك كتاباً لنفسه ويشارك القارئين الآخرين قراءته في الوقت نفسه على انفراد. ولا يضاهي هذا الاختراع العجيب سوى العمل المقابل المعروف بالفهرسة وتصنيف الكتب في قوائم وكتالوجات. ويتابع(تاريخ القراءة) أكثر من تصنيف للكتب، منها تصنيفها بحسب ألوان أغلفتها: الوردية للنساء، والخضر للرجال، والمزودة بالرسوم للأطفال. وكانت النساء لا يحظين إلا بتصنيف محدود لنوع من الكتب يسمى (كتب الوسادة) يقرأنه في خلواتهن، أما العبيد الأرقاء فلا يسمح لهم بالقراءة الفردية إطلاقاً، أسوة بعمال مصانع التبغ في كوبا الذين كانوا يستمعون بأجمعهم لقارئ عام يقرأ عليهم خلال أوقات العمل. ولم تفعل قوائم الفهرسة إلا في تأجيج نهم القراءة المتزايد بالإشارة من بعيد إلى الكتب التي تأسر العيون والأسماع، وتحض العقول القاصرة على اقتحام أسرارها. لم تستطع قوائم المنع والتحريم التي تصدرها سلطة الكهنوت وشبكة المكتبات المتفرعة منها، الوقوف بوجه “قوة الكلمة” التي أطلقتها القراءة الجهرية في المصانع والمزارع وأقسام الحريم والعبيد، والحيلولة دون تمثلها وتحولها إلى أفكار وأفعال فردية.

الحركة الثالثة التي تابعها تاريخ القراءة، بعد الطباعة والفهرسة، هي الترجمة: التي إذ تفتح كوة للنور، فإنها “تبلبل”اللسان، وتحيد باللغة عن كونها الأمّ. وكما رأى همبولت، فإن الترجمة مستحيلة “مثل صبّ الريح في قوالب، أو جدل خيط من حبات الرمال”. لا تقبل الترجمة إلا بتقديم “كون مواز” للغة النص الأصلية، أو تحقيق “حركة في الأسلوب” حسب نيتشه. واستناداً إلى رأي بول دو مان في ترجمة ريلكه سونيتات فرنسية من القرن السادس عشر إلى الألمانية، فإن النص الموازي لا يترك عند قارئه إلا شعوراً خادعاً بالاعتداد والسعادة فحسب. ولربما داخلنا هذا الشعور لدى قراءتنا أشعار ريلكه المترجمة للعربية عن أصلها بالألمانية.

إن حركات التفسير الواسعة للنصوص الإغريقية والغنوصية واللاتينية، ولنصوص العهدين القديم والجديد، وللقرآن الكريم والأحاديث، كانت عاملاً أساسياً في توسيع الكون القرائي لكل قارئ حاول خرق العادات القرائية التي أوحى بها المؤلفون والمفسرون أنفسهم، وفرضوا عليه حداً مانعاً في التصنيف والفهرسة. ويضطرم تاريخ القراءة بمراحل وأنواع القراءات، وما يصحبها من أسانيد الممانعة والتحريم، وما تفرضه على نُظُم الكتابة من قوانين وخطابات وتحولات، أي بكل ما تفرضه قوائم الفهرسة والتصنيف والتكريس من ظلال وشُعب وأغوار على النصوص.

وحيال هذه العقبات الخطيرة، يقترح تاريخ القراءة مجازاته لتحقيق أكبر قدر من الحرية في التفسير والتأويل. وبهذه التحولات والمقابلات التفسيرية، يصبح فعل القراءة مع الكتابة سواء بسواء من أخطر اختراعات العقل البشري، ينقضان حقيقتهما ووجودهما لحظة بلحظة، عندما يبرهنان في كل صفحة مقروءة على بلبلة اللغات وصراع الأكوان المتوازية. ولا يبدو أن هناك سعادة (كأنها شقاء أبدي) تفوق هذا التنابز بين النصوص وقراءاتها، الرموز ودلالاتها الخطيرة.

ربما احتاج كتاب مانغويل إلى فهرست أو تصنيف كمثل ذاك الذي اخترعه كاليموخوس أمين مكتبة الاسكندرية في عهد البطالمة لمخطوطات العالم القديم. فقد يختصر كتالوج خيالي لمكتبة كبيرة قديمة أو حديثة موجودات الكون كله (ولا أهمية لنوع التصنيف: ورقي أو رقمي).

ولعل كتاب مانغويل الذي خصص أكثر من فصل لمكتبات العالم القديم، يقارب نوعاً من فهرست خزانة كتب مفقودة، كفهرست ابن النديم، يقترح مؤلفه قراءتها على نظام كاليموخوس الاسكندراني، أو بحسب نظام بورخيس لمكتبة بابل. إلا أن مانغويل يخلص إلى أن القراءة تحرير للكتاب من نظام أي تصنيف يحشر القارئ (الفضولي، النبيه) في حدود كتالوج اصطناعي حقيقي أو زائف. وما كتابه إلا تجربة تقود القارئ إلى كتاب الوحدة والتأمل، المقروء بمجازات غير مصنفة، كما يدل على ذلك نظام تسلسل الفصول والصفحات.

يعتقد آلبرتو مانغويل أن الكتاب العظيم لا يحتوي إلا على صفحة واحدة، هي الصفحة الأخيرة، تنتهي عندها سلسلة من الصفحات “الرملية” برأي بورخيس، وتعجز عن تكملتها نصوص كافكا الناقصة، وتصنفها مكتبة سارتر “الغثيانية” حسب الحروف الأبجدية، وتخفيها سيميائية إيكو في حجر محجور في دير جبلي. ثم يأتي مانغويل في أعقابهم ليؤكد هذه الظنون، فيفتتح (تاريخ القراءة) ويختمه بفصلين تحت عنوان “الصفحة الأخيرة”. الصفحة الأولى “الأخيرة” من الكتاب تأمّلٌ في أمثولات القارئين المثاليين العظام (أوغسطينوس وتوما الأكويني). أما الصفحة الأخيرة “الأولى” فاستنتاجٌ لكتاب مثالي (موهوم) يضاهي الكتاب الأصلي في فصوله ومحتواه. أما الصفحة الأولى من أي كتاب فهي مفقودة أبداً، حسب اعتقاد مانغويل التلمودي.

يحتوي الفصل الأخير “الأول” من تاريخ مانغويل تعليقاً على شعور البطل المحتضر في قصة (ثلوج كليمنجارو)لهيمنجواي، الذي يتحسر على سلسلة الكتب التي فاته تأليفها على فراش الموت.

يعلق مانغويل على نص هيمنجواي: “إن سلسلة الكتب التي لم نكتبها، مثل سلسلة الكتب التي لم نقرأها، تمتد إلى أقصى زاوية من زوايا المكتبة التي لا نهاية لها. إننا نقف دوماً في البداية، بداية المجلدات الأولى من حرف الألف”.ويزيّن مانغويل فصله الأخير “الأول” بصورة لثلاثة قراء يبحثون عن كتب سالمة على رفوف مكتبة عامة غربي لندن، قصفها الألمان العام 1940. القارئ الأول يتفحص الكتب متردداً، والثاني يمد يده ليلتقط كتاباً من الرف، والثالث ينغمر في قراءة كتاب مفتوح بين يديه وسط ركام المكتبة.

 

 

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق