أدباء وكتاب في سجال لحظات استدراج الكلمة إلى مصيدة القلم (1-2)
خَلَصَ تحقيق سابق نشرته “الصباح” في جزأين إلى أنّ النخب العراقية والعربية المثقّفة، دأبت على القراءة كتقليد يومي يشكّل مراسا نوعيا يصنع الكاتب، والنبع الذي يغرف منه المعرفة، واللياقة الفكرية. بيْد ان سجالات المشاركين حول”عادات” القراءة، جعلتهم يقترحون الخوض في ظروف الكتابة، كنتاج إبداعي يرتبط بشكل جذري بالمطالعة، ما يجعل الاثنين، أي الكتابة والمطالعة، بمثابة عادات طقوسية يحرص المبدعون على ممارستها، كفعل تراتبي في نظام حياتهم،
يشعرون بالحاجة إليه مثل الأكل والشرب لتحفيز الدماغ على التفكير في أَوْج مستويات الأداء، والحفاظ على نسق التطوير المعرفي. وفي حين عُرف عن الأديب المصري الراحل طه حسين تهيئة نفسه حتى من ناحية “المظهر” للشروع في تدوين أفكاره على الورق، فان الكاتب الأميركي أدجار آلان بو كان فوضوياً وهو يكتب مداعبا قطّته، فيما يحيط جبران خليل جبران نفسه بأجواء روحانية خالصة وهو يدوّن أفكاره.
وفي هذا الصدد، ينهل أدباء ومثقفون وتشكيليون في أحاديثهم لـ”الصباح”، من منبع اللحظة الاستثنائية والحدث، لتشكل الكتابة في حياتهم عملاً طقوسياً، بشعائره واحتفالاته، ويعترف الشاعر شوقي عبد الأمير لـ”الصباح” أنّ “لا طقوس لدي في الكتابة، أكتب كما أشتهي، كما أخاف، كما أحلم، والكتابة عندي نوع من الرشح الكينوني، كي لا أقول النزف”.
ويستطرد في الحديث “هذه الحالة تكتب نفسها في كل لحظة، وفي أي مكان، حتى أني كتبت جزءا كبيرا من قصيدة (أبابيل) وأنا أسوق سيارتي، فلا وقت ما يستفزني، إنما حينما تأتيني عبارة حُبلى، تولد القصيدة منها، ويمكن أن يكون أي مكان مخاضاً”.
وحول القصيدة المكتوبة بحسب “الطلب”، يقول عبد الأمير “هؤلاء شعراء مناسبات، وقصائدهم تقارير لوكالات أنباء شعرية”.
العزلة
غير أنّ الشاعر عبد الرحمن الماجدي، يشير في هذا الصدد إلى “عادات” وليست “طقوساً”، فيقول “أعرف شاعرة هولندية لا تنفتح نافذة الكتابة لها إلا بعد جلوسها في التواليت الغربي بمساحته التي توفر القراءة أيضا”.ويضيف “تقترن الكتابة بالعزلة لدى غالبية الكتاب، لكني أستغرب من كاتب يتمكن من التأمل والتدوين وسط فوضى وضجيج ككاتب عراقي أعرفه كتب رواية جيدة، وكان يعيش بصحبة زوجته وأطفاله في غرفة واحدة فقط، يكتب ويفكر ويأكل وينام فيها مع أربعة أشخاص، هم زوجته وأطفاله”وبحسب الماجدي “تقترن الكتابة لديّ بالهدوء والانعزال التام اللذين يتيحان للتأمل متسعاً، وتقترن لديّ بالتوتر وأحيانا بالصراخ عمّن يناديني حد أني في بعض الأحيان ألعن تفاصيل الحياة الأسرية والبحث عن جنة العزلة”.
ويتساءل الماجدي”لكن مع شيوع التقنية والاستسلام لغواية صندوقها الأبيض ولوحها الكفي، فهل من عزلة بقيت؟”. ويتحدث الدكتور الناقد ليث شبر، مؤلف كتاب “استنباط المعنى عند العرب” لـ”الصباح” عن ان “الكتابة مفهوم عام يتم فيه تحويل الكلام من صوت مسموع إلى رسم مكتوب، والكتابة لن تكون مبينة واضحة إن لم تكن واضحة في عقل صا حبها، وعلى هذا فعبارة “خانني التعبير”، إنما هي في الأصل عدم اكتمال الفكرة ونضجها”.
يقول شبر “الكتاّب منازل، فيهم البليغ وفيهم المقل وفيهم من يجري الكلام على قلمه منسابا سهلا، وهناك من يقلب كلامه غير مرة وهناك من يرسله على عواهنه، ولست من أولئك فإني لا أمارس الكتابة حتى تنضج الفكرة في رأسي، فإن صغتها بكلام رائق مبين نشرتها وإلا فتركها أولى،
التلقائية
غير أن الشاعرة والكاتبة السورية غادا فؤاد السمّان ترى أن “الكتابة على اختلاف مناسباتها، تملك سلطتها الباهظة على أمزجتنا، وهي تتجلّى بين وقت وآخر، فكتابة الصباح تختلف شكلاً ومضمونا، عن كتابة الظهيرة وما بعدها، عن كتابة الليل أوله وأوسطه وآخره، فلكل ساعة جغرافيا حقيقيّة ترسم خطوطها وحروفها ومضامينها ومعالمها الشاسعة أو المحدودة أو المبهمة في آن، وكلّ ذلك رهن الموضوع الذي يفرز الحالة التي تتحكّم في كيفية السبر لنبش المكنون حسب الوجهة والتوجّه، إذ منها العقلاني، والعاطفي، والروحي، والذاتي، وغيرها كثير”.وتستطرد في الحديث لـ”الصباح” ان “كلّ ذلك يدخل في إطار التركيز من باب التفكير، أو الشعور على سبيل التلقائية، والكتابة عندما تصبح يومية تفقد خصوصيتها ومتعتها وتندرج تحت مسمى الروتين، وإن اضطّرتنا الحياة أحياناً أن تصبح الكتابة وسيلة من وسائل تأمين الرزق الكريم، وهذه أقلّ الحالات تهيئةً، وحدها القصيدة، تفتح مدارات لا محسوبة، تستجرّنا إلى عالمها، بطقوس لا إرادية بأنانية تامّة، ترفض كلّ الرفض أي كائن آخر غير صاحبها الذي اختارته حتى وإن كان نبتة خضراء مجاورة، فنعيش لوثتها وجنونها ودهشتها وحمّاها وفسحتها، بكامل الشغف والمتعة”.
وتتابع “مع هذه الهبات التقنية التي توفرت للكتاب، لم تبق عزلة، بل قلق قد ينسف مشروعاً إبداعياً بأكمله في لحظة عطل تقني أو هجوم فيروسي. وهذا القلق يجعلني أحتفظ بمسودة إضافية (لتكن ورقية) تجنباً للاستسلام التام لجهاز قد يلتهم ويفتك بما أنجزته، ولن يعود ببهائه الأول. وهو جزء من قلق أكبر يتواصل مع الكاتب حتى بث الحياة في ما كتبه حين النشر”.
بلا طقوس
ويذكّر الكاتب الصحافي ورئيس تحرير مجلة “دنيا”، زيد الحلي في حديثه لـ”الصباح” بما كتبه الكاتب ماركيز في مذكراته حيث يقول “قابلت يوماً زافالا محرر جريدة الاونيفرسال جالسا أمام آلته الكاتبة ثم قال لي: أعرفك، أنت الشاب الذي يكتب القصص القصيرة في الاسبكتادور، لماذا لا تجلس معي هنا وتساعدني في هذه الافتتاحية؟”.ويستطرد الحلي على لسان ماركيز “كتبتُ شيئاً ثم أخرج قلمه الرصاص وشطب الكثير من الأجزاء. كتبت مرة ثانية ولم يشطب سوى بعض المقاطع. في اليوم الثالث من هذه المهمة أصبحت أكتب بلا تعديل. لقد أصبحت صحفياً”.ثم يقول الحلي بعد ذلك “فكيف بي وأنا مستمر بالكتابة منذ 50 عاما..؟، أصبحت أكتب دون طقوس، في أي وقت، وفي أي ظرف، مشكلتي الاولى في السطر الأول، وما بعده ينساب مثل ضوء الفجر”.أما الكتابة بالنسبة للصحفية إيناس العبيدي، فهي بحسب حديثها لـ”الصباح” عبارة عن “ترجمة دواخلي أو انفعالاتي أو انتقاداتي عبر سطور، وهي متنفسي في حالات الفرح والحزن”، مشيرة إلى أن “لكل كاتب طقوسه ليبدع في سرد رسالته الكتابية”.وتقول “الهدوء والاستعانة بقهوتي هي أفضل الطقوس، ولدي عادة غريبة، ذلك اني أكتب تحت الضوء الخافت أحيانا ما يرهق عيني. الكتابة عندي نظام حياتي منذ كنت طالبة في المتوسطة إلى ان امتهنتها، وكتاباتي الخاصة تلقائية وبدون تخطيط، وتكون وليدة لحظتها كموقف أو صدفة، أما في العمل فهي ضمن تخطيط مسبق ودراسة”.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق