شعراء : الجواهري رسخ أسباب بقائه عبر الأجيال
ما الذي تغيّر بعد أكثر من سبعة عشر عاماً من رحيل محمد مهدي الجواهري؟ وكيف يمكن أن نعيد قراءته بعد أن قدّم للشعر العربي ما لم يقدمه شاعر في القرن العشرين. فالجواهري المولود في مثل هذا اليوم 26 من تموز العام 1899؛ حسب أكثر الآراء، والذي تمر ذكرى رحيله غداً 27 من تموز، عاش 98 عاماً منتجاً للشعر والحياة، ومجدداً في القصيدة العمودية، بعد أن استمد قدرته من أهم شعراء العربية، حتى قيل فيه أنه متنبي العصر الحديث.
لم يخطئ هذا الشاعر حين قال في حديث لمجلة “الإذاعة والتلفزيون” قبل ثلاثين عاماً: لا قمة للشعر بعدي. وفي هذا يرى الدكتور صالح زامل إن القصيدة التي كُتبت بعده لم تنهض رغم محاولات الكتابة المستمرة، المحاولات التي ظلت لصيقة بالمنبرية وللمنبر بذاته، فلا حماسيات عبد الرزاق عبد الواحد ومحمد حسين آل ياسين، ولا تجربة قصيدة شعر التي حاولها شباب التسعينيات استطاعت أن تعيد الحياة لكتابة تلك القصيدة.
ويتساءل زامل: هل كانت عبارة الجواهري لعنة حاصرت من بعده وألجمت كل المحاولات، فلا تراث بعده؟ “يبدو أن الجواهري كان خلاصة لمدرسة الأحياء و”للنيو كلاسيك” وقصيدته المنبرية لم تفقد ألقها، بل يحضر قوله في المتنبي ليطابق ذاته:
تخطى الموت واختزل الزمانا
فتى لوى من الدهر العنانا”.
مضيفاً أنه بعد أكثر من عقد من حياته، لا نستطيع أن نشتم الجواهري الذي يراه البعض مداحاً، أو صاحب حظوة لدى الملوك، إنّما يحضر ببساط شعره وبفسيفسائه، وبالجرأة التي ناطحت بلا خوف عتاة من الظالمين، بالإنسان موقفا، ليحضر عبر الزمان فنانا بحسب توصيفه للمتنبي.
الالتزام التقليدي
ولدى الشاعر فرج الحطاب، فإن أهم ما ميّز شعر الجواهري هو الالتزام بالشكل التقليدي للقصيدة العربية حتى وصفه بعض النقاد بأنه شاعر “عباسي الديباجة” حسب ما يرى مير بصري. ولد الجواهري وعاش وترعرع في مدينة النجف الأشرف، حيث يشكل الشغف والالتزام بالتراث والأدب واللغة العربية سمات غالبة للتعليم فيها بشقيه الديني والمدني. والجواهري سليل اسرة عريقة في الدين والأدب والشعر، فهو حفيد الشيخ محمد حسن النجفي من كبار مراجع الدين في القرن الثالث عشر الهجري، وهو صاحب كتاب “جواهر الكلام” والمعروف أيضاً بصاحب الجواهر، وإليه يعود لقب عائلة الجواهري. “ما تبقى من الجواهري ليس إسلوباً جديداً أو مدرسة شعرية أو فكرية جديدة. في نظري، كل ما تبقى من الجواهري هو درس بليغ في كيفية بقاء الشاعر حياً، حراً وفاعلاً في الحياة، يقول دوماً ما تعجز عنه الكلمات الخائفة، متحدياً سلطة المجتمع والأفكار التقليدية. الجواهري كما أرى، هو آخر حلقة في سلسلة الشعر تفصل ما بين الماضي والحاضر، إنه آخر فرسان الشعر العربي التقليدي”.
أيقونة عربية
لكن الشاعر والناقد علي حسن الفواز يبيّن أن الجواهري لم يعد ذاكرة كاملة الصلاحيات للزمن الشعري العراقي أو العربي، يقدر ما أضحى أيقونة لاستعادة المجد الأخلاقي للشاعر، ولحضوره الاحتجاجي إزاء التاريخ والسلطة، إذ هو الشاعر والصحفي والثائر واليومي.. “ما نقرأه في ذكرى الجواهري اليوم هو استعادة لتلك اليافطات التي تنعش ذاكرة الثورة والفحولة والصوت، وذاكرة ما يتساقط من تاريخ التحولات التي عاشها الشارع العراقي منذ ثورة العشرين ولحين تحول السلطة العراقية إلى تكية للاستبداد”.
ويؤكد الفواز أن الجواهري في هذا السياق يشبه المتنبي الشاعر، الذي أعاد القصيدة إلى فخامتها الأسلوبية، لكنه أقسر عند تحولاتها الفنية مكتفياً بالحكمة والتعالي والقوة المهيمنة للقصيدة.. لذا لا قراءة فنية لقصيدة الجواهري خارج هذا المعطى وخارج تبدياتها، أوربما فات وقتها إلاّ لغرض الدرس الشعري البلاغي، تلك التي نستعيدها أيضا توكيداً لفعل التاريخ وتبدياته، وليس لفعل القصيدة وتحولاتها الفنية، وإشهاراً بسلطة الأثر في قصيدة الجواهري وسط عالم يتعرض للانتهاكات الفنية الكبرى، انتهاك المتغيرات والإزاحات والترجمات، تلك التي وضعت القصيدة عند الحافة، مقابل أن يظل هو الشاعر الرائي والمتعالي والفائق والوارث، و”هذه صفات لا يملكها شعراء الحداثة المصابون بقلق التحول، وفوبيا التاريخ ورهاب الأسئلة الباحثة عن سرائر الشعر والشاعر والمعنى والوجود”.
ينابيع الشعر
يردد الشاعر أحمد الكعبي مقولة طه حسين بحق الجواهري واصفاً إياه بأنه إله الشعر أو رب الشعر، مضيفاً أنه بعيداً عن التعقيد في مصطلحات النقد العربية القديمة، حافظت قصيدة الجواهري على معنى الشعر، وعلى إداء المفردة داخل البيت الشعري، أي أنها تخلصت من تكرار التواجد، بصورة أدق المثالية في التواجد حتى تمت مقارنة أعماله الشعرية بقصائد من سبقوه بقرون الذين تم تدوين فنهم على مدى الدهر وهو يستحق ذلك.
ويشير الكعبي إلى أن قصيدة الجواهري تنوعت لأنه أدخل فيها روحاً لم تمت، لذلك عاشت لتحاكي الوجود وتبقى حجة المدينة بكل ما تضم من معالم وطبيعة، كاشفاً أن قصيدة اليوم تعيش أياماً معدودة و”أنا أتجرأ هنا كثيراً على المشهد الشعري.. فالشعرية الحديثة تحاول أن تصل إلى مدى هذه القامة الهائلة، لكنها تتعكز على اخفاقات المتشبثين بالقديم في سجالها الأزلي معهم”. الجواهري غرف من نهر كبير حفره بيده، الشاعر الحديث مطالب أن يعيد قراءة الجواهري، لا لتقليده بالطبع، بل للمرور على تلك الحالة الفريدة التي تفوقت على الأوائل أيضاً… فالشعر يعني أيضا أن تتبع الينابيع العظيمة في بعض الأحيان. الجواهري حالة قائمة لا يمكن ربطها بالقديم.. فهو حاضر دائم.
أسباب البقاء
أما الشاعر علي نوير فلا يظن أن فكرة أن يكون حاضراً في الوجدان في كلّ آن، مهما أختلفت الأساليب في قول الشعر، واستجدّت معها الرؤية والذائقة قد غابت عن ذهن الجواهري، فهو من الندرة من شعراء العربية الذين حرصوا كثيراً على فسحة الخلود هذه، بعدّتهم الكاملة وسعيهم الى أن يكونوا صوت عصرهم المعبّر عن آلامه وآماله وتطلّعاته. لهذا يرى هنا أنّ قراءة الجواهري، ومن هم على غراره حسب المتغيّرات التي طرأتْ على الشعر العربي ليست كافية ما لم نأخذ بالحسبان المتغيّرات في الواقع العربي ومنه العراقي ومدى استجابة شعر الجواهري وسواه لها، اِنّ ذاكرةً ما زالت تحتفي بقصائد ملا عبود الكرخي (وهو الشاعر الشعبي) وبمنولوجات عزيز علي وبشعراء مغمورين من العصر الجاهلي، لا لشيء سوى أنّ هؤلاء قد استجابوا مع اختلاف أساليبهم إلى ذلك الجزء الخالد في الوجدان.
“أقول إنّ ذاكرةً مثل هذه جديرةً بأن تحتفي بالجواهري الذي اختصر عصراً بأكمله ممتثلاً لوقائعه الكثيرة والتي ما زالت امتداداتها ماثلةً إلى الآن. وهذا في ظنّي لا يُلغي الحاجة الى اجتراح أساليب وأنواع شعرية جديدة ما دامت هي الأخرى لا تُلغي ما سبقها من أساليب وأنواع تهدف جميعهاً إلى شعرٍ أكثر غنىً وأبعد أثراً.. ويبقى الخلود من حصّة المتميّزين منهم ، والجواهري مثالهم الأبرز”.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق