التحديث الاخير بتاريخ|الأربعاء, ديسمبر 25, 2024

مراقد البقيع.. رموز تخشاها الوهابية 

محمد علي جواد تقي –

   مهما حاول “الداعشيون” خلق حالة من الاستقلالية لأفكارهم وتحركاتهم وحتى ممارساتهم، بانت خيوط الارتباط من تحت أقنعتهم، فهم يدّعون أنهم يقيمون “الدولة الإسلامية…”، ولكن من خلال هدم مساجد الله التي شيّدت على مراقد الانبياء والصالحين الذين مثلوا التوحيد والفضائل والعمل في سبيل الله، وقدموا للبشرية النهج القويم للحياة.

ان هدم مسجد النبي يونس والنبي شيت في الموصل، وقبلها هدم مراقد الأولياء الصالحين في سوريا، تذكرنا والعالم بمقبرة البقيع وما لحق بها من هدم وتدمير في مثل هذه الايام قبل (91) عاماً، لان الدوافع واحدة.. “الشرك بالله”، انه الشعار التي يتشبث به هؤلاء للدفاع عن انفسهم في مقابل القامات العالية في الامة التي لولا المراقد والمساجد وإحيائها بالطقوس العبادية، لما كان لها هذا الذكر والأثر في النفوس.

بات من المتفق عليه من قبل المنصفين والعقلاء في العالم، أن إحياء ذكر الرموز الدينية والاجتماعية والفكرية وحتى القادة العسكريين، من عوامل قوة الشعوب والأمم، لأنها تقدم الى العالم رموز قدمت بطولات او انجازات باهرة، ربما تتجاوز حدود البلد والشعب، وإنما تلقي بظلالها الوارفة على شعوب العالم، كما هو الحال بالنسبة لعلماء الفيزياء والكيمياء وغيرهم، الذين قدموا للعالم الإنارة والطاقة ومحركات الديزل وطرق الوقاية من الأمراض، بل وعلاج الكثير منها، واكتشافات كثيرة جعلت من الحياة اليوم اكثر سهولة وراحة للإنسان مما كان عليه قبل قرون من الزمن.

طريقة إحياء ذكر العلماء والعظماء لدى الشعوب الغربية يكون بتشييد النصب التذكارية او حتى نحت تماثيل لهم، ليبقوا في ذاكرة ووجدان الاجيال. وفي البلاد الإسلامية، تقام الأضرحة والمراقد لأولياء الله الصالحين، وهم النبي الأكرم وأهل بيته الكرام، صلوات الله عليهم، وحتى أبنائهم وأحفادهم الى سلسلة طويلة من النسب. فالمراقد المنتشرة في بلادنا، الى جانب المراقد المعروفة والكبيرة، تمثل رمزاً معنوياً يرفد الناس بطاقة هائلة تعزز لديهم الثقة بالنفس وتشعرهم بالاستقرار في خضم الازمات والفتن التي لا تنتهي. فما الذي يحتاجونه في أجواء وظروف كالتي نعيشها اليوم..؟ انه البصيرة الإيمانية لتحديد الموقف الصحيح من هذا وذاك، وهذا يتوفر من سيرة المعصومين، عليهم السلام،  والتابعين لهم، بمعنى أن المراقد المشرفة، ليست قبوراً عادية، إنما هي مراكز إشعاع وإلهام فكري وثقافي.

هذه الرمزية المعنوية وعامل الاستقرار والارتياح النفسي لدى المسلمين، يثير مخاوف كبيرة لدى طرف مهم في القضية، وهي السلطة الحاكمة، فهي ترى نفسها القيّمة على أمور البلاد والعباد، وهي التي يفترض ان تكون محل ثقة الناس ومصب ولائهم الأول والأخير.. فهم الذين يمتلكون الاموال والقدرات على ارض الواقع وليس غيرهم. هذه الخشية مردّها الى عامل نفسي في بنية الحكم، فالنموذج “السعودي” يرى أن وجود رمزٌ معنوي يُقتدى به في مقابل ما يبذله من محاولات لتكريس واقعه على الارض، يمثل إعلان حرب وجود، فهذه الدولة التي تشكلت بفضل الدعم والتخطيط البريطاني اوائل القرن الماضي، تفتقد الى العمق التاريخي والحضاري، فهو نظام حكم قبلي – وراثي، يتعكّز على الدين من خلال مذهب مختلق بالاساس، يفتقد للجذور الدينية الموجودة لدى المذاهب الاسلامية الاخرى.

وفي احدى محاضراته حول قضية البقيع، والمراقد المشرفة التي هدمها الوهابيون، تساءل سماحة الفقيد الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- عن سبب غضّ الطرف من الحكام في البلاد الإسلامية طوال العهود الماضية، منذ الدولية الأموية ثم العباسية، وهكذا الدول والأنظمة السياسية التي تعاقبت وهي تحمل متبنيات دينية ومذهبية واضحة، كلها لم تستشكل على وجود المراقد والمزارات، حتى تاريخ ظهور “الدولة السعودية” يعاضدها المذهب الوهابي، وأعلنت الحرب على هذه المزارات، وفي دسيسة معد لها سلفاً تمكنوا من استحصال الموافقة من عدد من علماء المدينة المنورة بضرورة تدمير الاضرحة المقدسة للأئمة المعصومين الأربع، عليهم السلام، وسائر المراقد والمشاهد المشرفة.

وما فعله “الداعشيون” في الموصل من تدمير مساجد الأنبياء والأولياء، يفسر حالة الشذوذ العقائدي لدى السعوديين عندما انفردوا بفتواهم الخاصة بتدمير الاضرحة والمراقد المشرفة. فالحكام والدول التي سادت ثم بادت في البلاد الإسلامية، كانت تمتلك عمقاً ثقافياً ودينياً، وتعد نفسها الامتداد الحقيقي للإسلام وللحضارة الإسلامية، لذا كان الحكام طيلة العهود الماضية، يحرصون الى إلصاق صفة “الخليفة” أو “امير المؤمنين” عليه لاكتساب الشرعية الدينية والمقبولية الاجتماعية، بينما الامر مختلف تماماً في السعودية، لان حكامها يعدون انفسهم هم البداية وهم النهاية في الاسلام..! فاذا كان ثمة نموذج للدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية، فهي تتمثل اليوم بـ “السعودية”.

وكما قيل دائماً: “البلاد التي لا تاريخ لها لا مستقبل لها”. فالبلد الذي يسمى اليوم، ومن دون جميع دول العالم، على اسم شخص معين، ويختزل التاريخ والحضارة في قبيلة وعشيرة، يكون معرضاً للاندثار والزوال، إن عاجلاً أم آجلاً. ولعل تخلخل الوضع الاجتماعي والنفسي وتراجع الحالة الايمانية والمعنوية لدى شريحة واسعة من المجتمع السعودي، وغيرها من الإسقاطات، تكون دليلاً على عدم انسجام الرأي العام مع فكرة إلغاء الرمزية الدينية والحضارية، بل يرون الى جانب هذا، فشل حكام السعودية في تكوين رمز ونموذج ناجح للشعب السعودي، فهم هدموا رموز العلم والتطور والفضيلة والانسانية.. ثم قدموا نماذجاً للفساد الاخلاقي والاداري والتخلف الاقتصادي والتبعية الكاملة للغرب، ايضاً التطرف الديني الى حد التكفير واستباحة الدماء والاعراض.

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق