داعش تتمدد … خارج الخط الأحمر الأميركي!
علي عبادي –
لم يخرج العراق من النفق بعد، ولا يبدو ذلك قريباً. ولم تتغير سياسة اميركا الغامضة حيال العراق، ولا يبدو أنها ستفعل الكثير لجلائها. الأميركيون يفضلون غرق الجميع في مستنقع سياسي – أمني لتكون لهم في النهاية الكلمة الفصل بعد تسليم الجميع بدور لأميركا في ما يجري.
لمن يستغرب برودة اميركا – أوباما (الديمقراطي) في التعامل مع الأحداث المهولة التي تجري في العراق، ينبغي استعادة تجربة البوسنة والهرسك في التسعينيات من القرن الماضي والتي شهدت مذابح مروعة على أيدي الصرب أدت الى فرز قومي- طائفي، وكانت اميركا – كلينتون (الديمقراطي) تتفرج آنذاك على ما يجري بحجج واهية، ما دفع بالعديد من المسؤولين الصغار في وزارة الخارجية الاميركية لتقديم استقالاتهم احتجاجا على سياسة بلادهم. الآن تسلك ادارة اوباما النهج نفسه في التعامل مع السلوك المفرط في الوحشية لجماعة داعش وما يؤدي اليه من مذابح توثقها داعش بالصور مع فرز قومي- طائفي، وفي يد أوباما حجة قد تسعفه قليلاً ويقبل بها قسم من الرأي العام الاميركي وتتمثل بالثمن الباهظ الذي دفعته اميركا في العراق أيام احتلاله. علماً ان لدى واشنطن خيارات فاعلة لا تتطلب التدخل العسكري البري، ومنها على سبيل المثال: تزويد القوات التي تواجه “داعش” بأسلحة مؤثرة وهي لا تفعل ذلك الآن مع الجيش العراقي لأسباب سياسية، ومنها ايضاً القيام بضربات جوية لمواقع “داعش” وتجمعاتها ومواقع قياداتها، لكنها لا تفعل ذلك إلا بحدود هادفة وضيقة جدا.
وسبق ان تركت اميركا- بوش الأب الشعبَ العراقي وحيداً في مواجهة نظام صدام حسين عندما أخرجت قواته من الكويت، فأخذ راحته في قمع الانتفاضة الشعبية في جنوبي العراق في العام 1991، وجرت مذابح فظيعة على مرأى ومسمع من القوات الاميركية التي كانت تراقب ما يجري من الجانب الآخر من الحدود. بقي الأمر كذلك الى ان نضجت “الطبخة” في العام 2003، وارتأت واشنطن- بوش الابن ان الوقت حان لإحلال الديمقراطية في العراق والدفع بقواتها للتمهيد من أجل إنجاز هذه المهمة!
- إبادة .. وتحرك ضعيف
حاولت الادارة الاميركية دوماً التقليل من حجم مسؤولياتها عن الخراب الحاصل في العراق (من دون التقليل من مسؤولية أطراف محلية وإقليمية)، وحتى عندما نشط اوباما فجأة واكتشف ان هناك عملية “ابادة” تحصل بحق الأقلية الإيزيدية سبقتها عمليات إبادة بحق المسيحيين والتركمان وغيرهم من فئات الشعب العراقي، كان الجواب ان الادارة الاميركية وجهت بضع طائرات لملاحقة بضعة مدافع متحركة تابعة لداعش، في ما يشبه رسائل ناعمة ترسم من خلالها بلون خفيف خطاً أحمر حول كردستان، ليذهب بقية العراقيين الى الجحيم!
بعد كل الكلام عن “إبادة” و”مجازر” جماعية للإيزيديين، جاء الجواب بغارات لا تسمن ولا تغني من جوع، وليقول البنتاغون ان “عدد الإيزيديين على جبل سنجار أقل بكثير مما كان يخشى سابقاً، وان الإيزيديين الذين بقوا هناك في حالة أفضل مما كان يعتقد في السابق ويتلقون الغذاء والمياه التي نسقطها لهم”، وبالتالي “فليس من المرجح القيام بمهمة إجلاء”. وقدّر اوباما عدد الموجودين في جبال سنجار وسط الحر والظروف الصحية القاسية بـ 4 – 5 آلاف شخص، في وقت تعلن الامم المتحدة عن رفع حالة الطوارئ الى الدرجة القصوى في العراق، ويقول ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) مارزيو بابيل إن “وضع النازحين على جبل سنجار يبقى يبعث على القلق البالغ حيث لا يزال عشرات الآلاف محاصرين ويعيشون ظروفاً صحية سريعة التدهور”.
يقول أوباما الكثير عن المأساة الانسانية في العراق التي ساهمت سياسات اميركا سابقاً في إيجادها وحالياً في استمرارها، وهو يستعيد شخصية المعتصم العباسي عندما يقول انه رأى عبر التلفزيون امرأة عراقية من الإيزيديين تقول ان لا أحد في العالم يسأل عن مأساة شعبها، فيكون جواب اوباما: “حسناً، نحن نهتم، وعندما تكون لدينا قدرات فريدة للمساعدة في تجنب حدوث مذبحة، أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب ان لا تغض الطرف”. ثم تبينَ ان العراقيين لا يهمّون اميركا وحلفاءها الاوروبيين الذين هرعوا لتقديم السلاح لكردستان، وليس لتخليص الشعب العراقي من شر “داعش”. لماذا كردستان تحديداً؟ تمثل كردستان حتى إشعار آخر تجمعاً لأعمال الشركات الغربية النفطية وغير النفطية وملاذاً هاماً لأجهزة استخبارات دولية واقليمية وموقعاً يراد من خلاله الإطلالة على واقع العراق وسوريا وايران وتركيا. وتسليح كردستان في وجه داعش يتم كما لو ان الحكومة العراقية غير موجودة، بالرغم مما يقال عن تنسيق غربي مع بغداد بهذا الخصوص. ولا يخفى ان القوات الكردية لديها الكثير من الاسلحة الثقيلة التي ورثتها من تركة العهد السابق ومن مخلفات الجيش العراقي الحالي في كركوك وغيرها، وبالتالي فان ما ينقصها ليس التسليح بقدر ما هو تنسيق جهودها العسكرية والاستخبارية، في وقت يخشى ان يعزز تسليح الأكراد بدون التنسيق مع بغداد قدرتهم على الانفصال، حسبما يرى جوليان بورغر المحرر الديبلوماسي لجريدة الغارديان
- خط أحمر .. وحبل ممدود لـ”داعش”
بالرغم من الأخطار الفادحة التي يمثلها وجود “داعش” كتنظيم وكسلطة فعلية في سوريا والعراق على الأمن الإقليمي والدولي، الا ان الادارة الاميركية غير متحمسة بعد لمواجهته، في وقت يعتقد العديد من الباحثين الاميركيين ان تأخير المواجهة في غير مصلحة أميركا. وقد يعود التأخير، كما يرى البعض، الى ان واشنطن غير راغبة في استفزاز التنظيم وفروعه ومناصريه، ما قد يجرّ الى ردود أفعال يمكن تجنبها. لكن هذا الحساب لا يستقيم مع الخسائر الأمنية التي ستكبر مع مرور الوقت، خصوصا مع اجتذاب التنظيم للكثير من المناصرين المأخوذين بتضخم دائرة سيطرته على الأراضي. ولا ريب ان تجربة سيطرة طالبان على القسم الاكبر من الاراضي الافغانية في التسعينيات وما جرّته من احتضان تنظيم القاعدة قبل شن هجماته على نيويورك وواشنطن تدخل في حساب دوائر القرار الاميركية.
ولهذا فان التفسير الأرجح لهذا البرود الأميركي في التعامل مع الحدث يتعلق بافتراض ان داعش لم تصل بعد الى مرحلة المساس المباشر بالمصالح الأميركية الاقتصادية والأمنية. ولهذا فان اوباما حرص على رسم خط أحمر أمام داعش يتعلق بأربيل عاصمة اقليم كردستان حيث توجد بعثات اميركية عسكرية ودبلوماسية وشركات متعددة الجنسية.
وقد يكون هناك خط أحمر آخر يتعلق بالعاصمة العراقية بغداد، يُمنع على “داعش” تخطيه لأسباب استراتيجية ترتبط بمنع التنظيم من الاستيلاء على عاصمة اقليمية هامة. غير ان تحركات التنظيم في ما عدا ذلك لا تستفز الولايات المتحدة التي ستفيدها رؤية “داعش” تضرب مصالح دول اقليمية مثل ايران وسوريا وتقطع تواصل البلدين عبر العراق.
وهذا من شأنه ان يمثل عنصراً ضاغطاً على ايران في مرحلة المفاوضات النووية، وعلى سوريا في مرحلة البحث لاحقاً عن تسوية للأزمة السورية. لكن التاريخ يعلمنا ان الحسابات القصيرة الأجل ترتدّ دائماً على المخططين الكبار الذين لا يقدّرون خطورة اللعب بأوراق غير مضمونة. لقد صرح الرئيس الاميركي في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز بأن بلاده “لن تسمح لهم بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق”، لكنه ربط القيام بالدور المانع بوجود “شركاء على الأرض قادرين على ملء الفراغ”.
هذا يعني بجلاء ان قرار التدخل الاميركي الفاعل ليس جاهزاً بعد، لأن ظاهرة داعش لم تصل الى مداها الاقصى ربما، ولأن الظروف تسمح بابتزاز الاطراف المحلية والاقليمية المتضررة منها.
- زرع النفوذ
من هنا، تركز واشنطن في هذه المرحلة على محورين من شأنهما تعزيز أوراقها في الساحة العراقية: دعم تغيير سياسي في بغداد، وتشريع وجودها العسكري “الاستشاري” في العراق، وهو وجود تعذر الحفاظ عليه في المفاوضات مع حكومة نوري المالكي قبيل الانسحاب الاميركي في نهاية العام 2011.
الهدف الأول بدأ يتحقق مع تغيير رئيس الوزراء العراقي، وهو يحتاج الى استكمال عبر ما يسميه الاميركيون تشكيل “حكومة مصالحة وطنية”، وهي عملية تبدو غير واعدة بسبب تعقيدات المشهد العراقي الداخلية والصراع الاقليمي والدولي على موقع العراق. وبقدر أهمية إدماج السنة في النظام السياسي وفصلهم عن منظومة “داعش”، ثمة محذور يثير مخاوف شريحة واسعة من العراقيين ترتبط بعودة رجال “البعث” الذين يختزنون عقلية انقلابية تمرسوا عليها ولا يترددون في اللجوء لمختلف وسائل العنف من أجل استعادة رؤيتهم “الأوحدية” للعراق. يضاف الى ذلك، ان التغيير السياسي في بغداد ليس كافياً لبدء حملة مضادة لـ “داعش”، إذ ان الاطراف السياسية ستكون الى حد ما مشغولة بالبحث في إعادة بناء النظام السياسي، في ظل خشية من محاولات لابتزاز رئيس الوزراء الجديد من قبل قوى تعتقد ان ضعف الحكومة المركزية بسبب التطورات الأخيرة يسمح بتسعير المحاصصة، وهو الأمر الذي تسببَ باستمرار في استنزاف العراق سياسياً وأمنياً وعرقلة نموه الاقتصادي.
وعلى المحور الأمني، تعززُ الولايات المتحدة انتشار رجال العمليات الخاصة التابعين لقواتها في عدد من محافظات العراق، وهؤلاء يعملون على الأرجح خارج نطاق إشراف السلطة العراقية في ظل الأزمة السياسية القائمة في بغداد، وهم يلتقون فاعليات محلية تلقت وعوداً بإسناد أميركي، الأمر الذي قد يعيد إنتاج تجربة “الصحوات” التي ظهرت في فترة الاحتلال، في شكل يربط العشائر بالتوجهات الاميركية بالدرجة الأولى ويشبه عملية زرع النفوذ.
إذاً، هو بداية تدخل أميركي محدود في العراق، يصار الى تصعيده عند الحاجة وفقا لأهداف مرحلية تأخذ في الحسبان مجمل صورة الوضع في سوريا والعراق وتطور المفاوضات مع ايران. ويعتقد البعض ان الأزمة العراقية قد تقرّب بين ايران واميركا لمواجهة أخطار “داعش”، لكن هذا الإلتقاء دونه تباعد في الرؤى وشكوك في النوايا. على ان الهدف المركزي للولايات المتحدة يبقى تقليص نفوذ ايران الاقليمي وتقوية خصوم محليين لـ”داعش” في سوريا والعراق بما يسمح بترتيب “توازن جيوسياسي” (متخلق من الفوضى الحالية؟) يخدم مصالح أميركا ويعيد المنطقة الى كنفها.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق