التحديث الاخير بتاريخ|الجمعة, نوفمبر 15, 2024

“أستسخف وأسخر من ضعفه أمام الجنس وحاجاته” 

من منّا يعرف ماذا ينتظره أو ماذا سيحصل معه؟ هناك خيارات نتخذها في الحياة بملئ إرادتنا، وأخرى تُفرض علينا، فتغيّر مجرى حياتنا وتحدّد مستقبلنا ومصيرنا. هذه حالة ريم، فتاة شقراء، عيناها ملوّنتان، جميلة القوام. انغمست في عالم لم تكن تُدرك ما هو وما هي تبعاته، أرادت فقط التخلّص من والدتها وقسوتها، بعدما كانت السبب الرئيسي لعملها في الدعارة، وغوصها في هذا العالم الذي حدّد مصير حياتها.

والد سجين وأم سجّانة

ولدت ريم في عائلة مفكّكة، فوالدها دائم الغياب، لا بسبب السفر أو العمل، بل بسبب سجلّه العدلي وحياته الإجراميّة، فكان يقضي أيامًا داخل السجن أكثر من التي يقضيها خارجه. أمّا والدتها فقد اضطرت ومنذ زواجها إلى العمل والخدمة في المنازل. كان وضعهم الاقتصادي مترديًا ولم يدخلا إلى المدرسة، لا هي ولا شقيقها الأصغر.
ولدت ريم في عائلة مفكّكة، فوالدها دائم الغياب، لا بسبب السفر أو العمل، بل بسبب سجلّه العدلي وحياته الإجراميّة، فكان يقضي أيامًا داخل السجن أكثر من التي يقضيها خارجه. أمّا والدتها فقد اضطرت ومنذ زواجها إلى العمل والخدمة في المنازل. كان وضعهم الاقتصادي مترديًا ولم يدخلا إلى المدرسة، لا هي ولا شقيقها الأصغر.

 

تروي ريم سيرتها ، كيف كبرت، وما الذي دفعها إلى عالم الدعارة. ما إن أصبحت في سن السادسة من عمرها أرسلتها أمّها وشقيقها للعمل في المنازل والنوم في مكان عملها، حيث تعرّضت لشتى أنواع العنف والإذلال، فكانت تضرب وتنام من دون طعام، وتعذّب، فيما تأتي والدتها آخر الشهر لتقبض راتبها عنها من دون أن تحرّك ساكنًا لإخراجها من حالتها على الرغم من معرفتها بالمعاناة التي تعيشها ابنتها، كما كانت تعنّفها هي وشقيقها ليستمرّا في عملهما.

 

 

هروب إلى الدعارة
أمام هذا الوضع المذلّ والصعب الذي عاشته ريم، من دون أن تحصل على حماية المفترض بهم حمايتها، انتظرت الفرصة الملائمة لتنقضّ على واقعها وتخرج منه، بعدما ذاقت الأمرين من الضرب والعذاب. كانت في سنّ الثالثة عشرة عندما تركت العمل في المنازل وتركت والدتها، فوجدت نفسها في الشارع من دون سقف يقيها البرد ويحميها من ظلامات الليالي الموحشة. وعندما لم تجد فتاتًا يسدّ جوعها، ما كان أمامها إلّا بيع جسدها، فيُشبع رجل جوعه الجنسي فيما تشبع هي جوعها البيولوجي.

 

عملت ريم سنوات في الدعارة، عملت في الشوارع وفي البيوت، تزوّجت من رجل وكانت في سنّ السابعة عشرة، كان يحضّها على العمل في الدعارة ويقاسمها الأموال، أنجبت منه ابنها الوحيد، لكن سوء المعاملة التي تعرّضت لها وتعنيفها جعلاها تنفر منه وتترك ابنها وتطلقه. عندها سافرت للعمل في الخليج حيث درّت عليها هذه المهنة كثيرًا من الأموال التي صرفتها على الملابس ومستحضرات التجميل والسفر، من دون أن تفكّر بالمستقبل أو بتأمين ما يضمن لها معيشة محترمة في أيّامها اللاحقة.

 

الرجال لم يسيئوا إليّ بل… !
وبحسب ريم، الرجال الذين عاشرتهم لم يكونوا سيئين معها، بل عايشت الآسى والألم من أقرب المقرّبين لها، أي من والدتها ولاحقًا زوجها. أحدًا من الرجال لم يتعرّض لها أو يؤذيها أو يعاملها بعنف ودونيّة، بل كانت هي المسيطرة على الرجال وأقوى منهم دائمًا. وتقول: “كنت من النوع المرغوب والمطلوب، والرجال يلهثون ورائي، لم أصادف مشكلات في عملي، بل في حياتي الشخصيّة. القريبون خذلوني وليس الغرباء الذين أقضي معهم ربع ساعة أو نصف ساعة. ليست لديّ نظرة عدائيّة للرجل، بل أستسخفه وأسخر من ضعفه أمام الجنس وحاجاته”.

 

 

بحثًا عن الهدوء
ومع مرور الأيّام بصخبها ومآسيها، وعندما وجدت ريم أن العمر بدأ يداركها، قرّرت ترك الدعارة، وتقول: “تعبت من نمط حياتي الصاخب، كان بدي روق وإهدا. كما كنت أخاف من الإصابة بالسيدا أو أي مرض معدٍ آخر، إضافة إلى أنني كبرت، فالمرأة عندما تتقدّم في العمر يخفّ الطلب عليها ويتراجع سعرها، لم تعدّ هذه المهنة تدرّ عليّ كما في السابق، ولم أكن أريد تشغيل الصبايا. فدخلت إلى دار اجتماعي يعنى بالمعالجة النفسيّة ويساعدنا لتأمين أنفسنا ماديًا، وما هي إلّا سنوات حتى تركت هذه المهنة إلى غير رجعة”.

 

وتضيف ريم: “اليوم، أهتمّ بأولاد ابني، علاقتي به شابتها كثير من المشكلات خصوصًا بعدما تركته لينمو في منزل جدّيه ووالده، ليست علاقة مثالية، نمرّ في بعض المطبّات ولكنها تمرّ. اليوم أعيش براحة نفسيّة أكبر ولكن ظروفي الماديّة لم تعد كما السابق، مصروفي “على قدّي”، لم أعد أشتري الملابس الفاخرة أو ارتاد الأماكن الفاخرة التي اعتدتها. لكن حياتي اليوم باتت أهدأ”.

 

الهوى مش للبيع!
“الهوى مش للبيع” هو عنوان الحملة التي أطلقتها جمعيّة “كفى عنف واستغلال” لفتح نقاش حول مكافحة الدعارة والاتجار بالبشر. وفي هذا السياق، تقول مايا عمّار من الجمعية لـ”النهار” : “أعددنا دراسات وبحوث حول الدعارة في لبنان على ثلاثة مستويات. دراسة تتناول الأحكام القضائيّة والقوانين المتعلّقة بالدعارة، حيث تساوى المرأة بمن يحضّها على الدعارة، من دون أن يجرّم الشاري. وفي دراسة ثانية، أجرينا مقابلات مع النساء اللواتي يعملن في الدعارة، لمعرفة الخلفيات التي دفعتهن نحوها، وماذا يُطلب منهن، وماذا واجهن، وتبعات هذا العمل. وفي دراسة ثالثة، ركّزنا على موضوع الطلب، أي لماذا يشتري الرجل الجنس، خصوصًا أن الطلب هو المحرّك والمسبّب الرئيسي للدعارة، والهدف هو تحديد مسؤوليات الشاري، فالدعارة هي صناعة لتسليع المرأة، وعنف تتعرّض له، وليست مهنة”.

 

ما هي التطويرات التي تعمل عليها الجمعيّة وتسعى لتحقيقها، تردّ عمّار: “هدفنا إلغاء الدعارة ولو استغرقنا وقتًا طويلًا، ويكون ذلك عبر تغيير الذهنيّات، تفعيل قانون الاتجار بالبشر الذي أقرّ عام 2011، عدم تجريم المرأة التي تعمل في الدعارة لأنها ضحية عنف واستغلال لكثير من الأسباب. المرأة التي اتخذت خيارًا مماثلًا لم تأخذه عن رضا وقناعة، بل في أغلب الأحيان بسبب حاجة ملحّة إلى المال، أو لأنها بيعت من الزوج أو الأهل، ولكن القانون يجرّمها والمجتمع ينبذها، فيما هي تتعرّض لشتى أنواع العنف والاستغلال”.

 

أسباب ودوافع
في أيّام عزّ الزيتونة كانت المنطقة تغصّ بالملاهي الليليّة، حيث تمارس الدعارة المنظّمة بقانون وتحت مراقبة الدولة. وكان شارع المتنبي مقصدًا لشراة الجنس والهوى واللذة. ألغيت الدعارة في ستينات القرن الماضي، لكنّها تفشّت بسريّة خصوصًا خلال الحرب اللبنانيّة وغياب الرقابة، لتعود وتتوسّع متخذة أشكالًا مختلفة بعد التسعينات، في الملاهي الليليّة ومراكز التدليك وحتى في الشوارع…

 

لا شكّ في أن أسباب كثيرة تدفع النساء لممارسة الدعارة، وهو ما تشرحه المساعدة الاجتماعيّة في جمعيّة “دار الأمل”، هبة أبو شقرا، لـ”النهار”: “العلاقة مع العائلة هي التي تحدّد توجّه الأولاد في الحياة، وأغلب اللواتي لجأن إلى الدعارة كن يعانين من مشكلات في منازلهن وعايشن تجارب قاسية في نطاق العائلة. أمّا أخريات فقد مارسن الدعارة بسبب سوء الوضع الاقتصادي، أو بسبب تعرّضهن لعنف في المنزل أو تعاطيهن المخدّرات، فيما هناك من يتجّهن إلى الدعارة لكسب المال وزيادة حساباتهن”.

 

بين الترك والاستمرار
هناك كثيرات يتركن الدعارة، فيما غيرهن يتمرّسن فيها ويطوّرن بيوتًا فيستقطبن فتيات يافعات لتشغليهن، فما الذي يدفع البعض إلى ترك هذه المهنة فيما تتمسّك أخريات بها؟ تردّ أبو شقرا: “لترك الدعارة يجب على المرأة أن تكون مهيّئة نفسيًا في الدرجة الأولى. أو عندما تنجب طفلًا كي لا يكبر في جوّ مماثل. أو إذا خافت من تعرّضها لأمراض منقولة جنسيًا نتيجة العلاقات المتعدّدة. أو عندما تكبر في العمر لأن لهذه المهنة سنّ محدّدة. أو لأنها تعبت من الذلّ والعنف والاستغلال. فيما أخريات يستمرّرن فيها بهدف جمع الأموال، أو لأنهن لا يملكن وسيلة أخرى للعيش، أو لتأمين معيشة أولادهن”.

 

هل للملاحقة القانونيّة فعاليّة للحدّ من انتشار الدعارة؟ تردّ أبو شقرا: “لا جدوى من الملاحقة القانونيّة، والدليل أن كثيرات يدخلن إلى السجن لأنهن كرّرن ممارسة الدعارة. فإذا كان الدافع ماديًا، ستعود المرأة إلى الدعارة لتأمين عيشها. السجن يحمل مخاطر كثيرة بسبب الظروف الصعبة وسوء المعاملة وما قد تتعرّض له أي سجينة وهو ليس حلًا”.

 

بين القوننة والإلغاء: أين الحلّ؟
لا يوجد مصير واحد للعاملات في الدعارة، فهناك من ينتهي بها الأمر تعاني من أمراض خطيرة، هناك من تطوّر عملها وتشغّل فتيات لتحصد الأرباح بعد أن يفوتها قطار العمر، وهناك من يكون مصيرها البقاء في الطريق معوزة، أما أخرى فقد تعاني في تربية ولد غير شرعي أنجبته من علاقاتها المتعدّدة، وقد تعيش أخرى عيشة عادية من الأموال التي جنتها في صباها.

 

أمام هذا الواقع، وأمام تشعّب هذه الظاهرة وتغطّيها بأقنعة كثيرة، يبرز جدل عالميّ حول اعتبار الدعارة مهنة أم عنف ضد المرأة واستغلال لها. لكن يجمع كثيرون على أن لا تكون المرأة التي تمارس الدعارة ضحية القانون، وهناك تجارب دوليّة للحدّ من هذه الظاهرة.

النموذج السويدي الذي يحاكم الطلب وليس العرض، أي يجرّم الشاري وليس مقدّمة الخدمة، كان فعّالًا وأخذت به دول كثيرة، بعدما أثبت أن عدد الفتيات اللواتي دخلن إلى الدعارة قلّ، وقلّ معه الطلب على الدعارة، لكن في المقابل نمت دعارة سريّة غير صحيّة وزادت حالات العنف. فهل الحلّ بقوننة الدعارة أو إلغائها؟ تقول مايا عمّار من “كفى”: “نحن لا نطالب بقوننة الدعارة وتنظميها، لأن ذلك يعني قوننة العنف الذي تتعرّض له المرأة. نحن نسعى لإلغائها وإيجاد نموذج شبيه بالنموذج السويدي لحماية النساء ومكافحة الاتجار بالبشر، عبر تجريم المشاركين في هذه الصناعة، فعند إلغاء الدعارة وتفعيل الرقابة، يصبح صعبًا ممارستها ولو بطرق مخفية”.

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق