ترکیا.. المشروع وحقیقة الانتماء؟
علاء الرضائي –
رغم المآسي الكثيرة والدماء والدمار التي جاء بها ما سمي بـ”الربيع العربي” والفوضى الخلاقة التي نشرها في الشرق الأوسط الذي لم يكن بدوره مستقراً يوماً على مدى تاريخه ومنذ أن أختاره الله مهبطاً لدينه وشرائعه وحاضنة لأشهر وأعرق الحضارات البشرية..
إلاّ إن من محاسن هذا المسمى بالربيع، وفيما عدى الاطاحة ببعض الدكتاتوريات العتيدة والتي كنا نأمل أن يستمر ليشمل بلدان الرجعية العربية الأخرى، هو أنه أماط اللثام عن كثير من الوجوه وأزاح الستار عن حقيقة بعض الانظمة، فأصبح الكلام “على المكشوف”.. وأصطف أصدقاء أميركا وفرنسا و”اسرائيل” في جانب ووقف محور المقاومة وبعض الداعمين له في جانب آخر، فيما تأرجحت بعض البلدان بين الصفين وأختارت “الأعراف”!
تركيا التي بدأت عهدها الأردوغاني بعلاقات مميزة مع محور المقاومة وخاصة جارتها الجنوبية، سوريا، وازدهرت العلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية بينهما، رغم وقوف الاخوان السوريين في صف معارضة النظام منذ زمن بعيد، سرعان ما غيرت بوصلتها وكشّرت عن أنيابها مع بداية الأزمة في سوريا عام 2011، مصطفة مع الغرب والرجعية العربية ضد الحكم في سوريا.. فصارت ممراً للقادمين من تونس والسعودية والصومال وافغانستان والشيشان وكل بلاد الدنيا من أجل “نصرة المظلومين” في سوريا و”الجهاد” بكل انواعه من قتل وذبح وتدمير ونكاح وسبي!
لكن سقوط الموصل ومناطق أخرى في غرب العراق وقيام التحالف الغربي من أجل العودة الى المنطقة بحجة محاربة “داعش” وما تبع ذلك من معارك وخاصة في مدينة “عين العرب” السورية او كوباني كما يسميها الأكراد، كشف حقيقة المواقف التركية، وحقيقة المهمة التي أنيطت بحزب العدالة والتنمية التركي.. فهل من الصدفة أن يكون صعود الاخوان في تركيا مقدمة لموجة الصعود الاخواني في تونس ومصر والمغرب وليبيا واليمن ومحاولاتهم في العراق وسوريا والكويت والامارات والاردن.. أم انه بعض السيناريوهات التي كانت معدة سلفاً للمنطقة؟!
من المحزن أن يقودنا ذلك لمنطق نظرية المؤامرة.. لكن أليس من الغريب أن تظهر هذه النماذج “الأسلاموية” جميعها بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979؟.. وكأنما يراد منها مواجهة المشروع النهضوي الاسلامي الحقيقي والحالة الاسلامية والتحررية الصاعدة في العالم بمشاريع مزيفة مرتبطة بالغرب حيناً وبالتحجر والرجعية الاقليمية حيناً آخر.. فمن سلام ولي الأمر في السعودية واسلام القاعدة وطالبان الى اسلام مرسي والعرعور والخلافة الأردوغانية الجديدة ومؤخراً الخلافة الداعشية، كلها تقدم قراءة “أخرى” للاسلام.. قراءة مرجعيتها مباشرة او بالوكالة بيد الغرب الليبرالي العلماني!!
لذلك أرى من الصعوبة تحليل الموقف التركي بدون معرفة حقيقة المشروع الذي أتى بحزب العدالة والتنمية والذي نشر ظاهرة اسمها الأردوغانية قبل أفولها نسبياً حتى داخل تركيا.. أما المشروع التركي الأردوغاني فيقوم على:
1. تقديم نموذج في الحكم ظاهره وشعاره الاسلام، لكن حقيقته علمانية وعمقه في التبعية للغرب.. مشروع سياسي ـ حضاري مدعوم اقتصادياً وأمنياً واعلامياً، يقوم به حزب له امتداداته في الساحة الاسلامية والعربية بالتحديد، من أجل ضمان تأثيره في الاحداث والوقائع القادمة!
هذا النموذج لم يأت من فراغ، بل يدعمه جيش من المفكرين والمثقفين “الاسلاميين” الذين ينتمون في عمقهم للحالة الاسلامية وفي حالهم الى القراءات الجديدة للنص الديني.. القراءات المستوحات بأدوات معرفية غربية تدعو في كثير منها الى القطيعة التامة مع الموروث والى تغليب العقلانية الحداثوية في الفهم، بل ان بعضها صار يشكك حتى بأصل النص المقدس!
2. التأكيد على مقولات الديمقراطية ومحاربة الاستبداد(الداخلي) ونظريات التنمية الغربية، دون أي اهتمام بمقولات مكافحة التبعية والهيمنة الأجنبية بأعتبارهما وجهان لعملة واحدة في بلداننا، بالعكس هي تدعو الى الاندماج مع الغرب اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً، بل تقاتل وتستميت من أجل ذلك!
لذلك تجهد تركيا نفسها لقبولها من قبل الاوروبيين عضواً في اتحادهم وهي عضو في الناتو ولها علاقات مختلفة مع أسوء وأقذر عدو للعرب والمسلمين، أي العدو الصهيوني!
ووفق هذا النموذج التركي تكون الاستعانة بالغرب لاسقاط الانظمة “الدكتاتورية” وأقامة حكم بديل، مشروعاً دينياً وليس سياسياً فقط، له فقهاءه ومن يفتون له، كما حصل في العراق وليبيا ويراد في سوريا.
3. اقامة دولة خلافة “سنية” على طريقة الاحلاف! يعني حلف سياسي وأمني وعسكري تقوده سياسياً تركيا وتدعمه مالياً قطر ويستخدم تنظيم الاخوان المسلمين أذرعاً له، وجيشه كتائب من الارهابيين من جميع الجنسيات يدار بهم من بلد الى آخر أينما تقتضي الحاجة!
4. الاستخدام الامثل للاعلام وعمليات التجييش والتعبئة للشارع الاسلامي (السني) بأتجاه هذا المشروع، من خلال:
ـ تقديم صورة ليبرالية للحكم الاسلامي في داخل تركيا وسعيه حل الاشكال مع الاقليات القومية،
ـ تصويره بأنه المدافع عن الفقراء والمظلومين في العالم، وهو يجوب مخيمات اللاجئين والفقراء من افغانستان الى الصومال،
ـ تصوير الحكومات الاخرى التي تواجه المشروع التركي الغربي بالطائفية (سوريا والعراق) ليتحول هو الى بطل لدى ابناء طائفته، حتى لو كان يضطهد ملايين منهم في جنوب شرق البلاد!
ـ مسرحية التصريحات مع القيادات الغربية، والتي دائماً ما تنتهي بقبوله لمشاريعهم مقابل امتيازات مالية او أمنية وسياسية لصالح نظامه العضو في الناتو!
ـ مسرحيات الصدام مع القيادات الصهيونية أمام عدسات الاعلام.. بينما كان بأمكان أردوغان قطع علاقات وتعاون نظامه مع الكيان الصهيوني وهو الذي يملك أغلبية البرلمان التركي!
ورغم المؤهلات التي تملكها تركيا لادارة هذا المشروع من عدة نواحي: علمية واقتصادية وعسكرية وأمنية وحضارية، وهو ما أدى الى ترشيحها للعب هذا الدور، إلاّ ان هذا المشروع يحمل في الوقت ذاته بذور التناقض والفشل في داخله ومن حوله، لأسباب كثيرة، منها:
1. عدم قبول أطراف أخرى في العالم الاسلامي (السني) بالأبوة التركية التي جربوها لأكثر من 400 سنة والتي انتهت في كثير من البلدان الى التعاون مع القوى الاستعمارية للخلاص منها، فيما عرف بالثورة العربية الكبرى!
2. فقدان تركيا لمرجعية اسلامية علمية كما هو الحال مع مصر بوجود الأزهر الشريف و على مستوى البلاط السعودي.
3. بعض الدول المتواجدة ضمن التحالف الغربي ترى لنفسها الأولوية على تركيا في زعامة مثل هذا المشروع… بينما ترفض دول أخرى تركيا من منطلق انتماء حكومتها لتنظيم الاخوان.
4. صعوبة التواصل مع الجماهير المسلمة والعربية خاصة بسبب الاختلاف في اللغة.
5. قوة التيار القومي في تركيا والذي يدعو الى اهمال الشرق الاوسط والانفتاح على الغرب تبعاً للمبدأ الاتاتوركي.
6. قوة وصلابة وانتشار محور المقاومة في المنطقة بأعتباره المستهدف الأساس في كل هذا المشروع الغربي.. وصموده الاسطوري في سوريا والعراق ولبنان.
7. ان حبل الكذب قصير والزيف أقصر.. وهذه سنة قرآنية “أما الزبد فيذهب جفاء…”، ولعل ما حصل في عين العرب (كوباني) أزاح الكثير مما كان الخليفة التركي يتستر به.. فقد ظهر أردوغان أهم حليف لأميركا والناتو في غرب آسيا والذي تضم بلاده العديد من القواعد العسكرية والمحطات الاستخبارية للناتو وعشرات القنابل النووية التي يمتلكها الحلف.. نعم ظهر على حقيقته أمام العالم والأكراد خاصة في احتضانه لعصابات قتلة على مستوى “داعش” في الهمجية والضحالة والارهاب.. وتأكد الجميع أن يد حاكم أنقرة واسطنبول ليست نظيفة كما يدعي، بل ملطخة بدم العراقيين والسوريين ولربما المصريين ايضاً!