الإستخبارات الغربیة و”صناعة الخلفاء”
منيب السائح
من الخطأ الاعتقاد ان الفتنة “السنية الشيعية” هي السلاح الوحيد بيد اجهزة الاستخبارات الغربية ، لانهاك الجسد الاسلامي واستنزاف قواه ، لمصلحة الكيان الصهيوني العدو الاول والاخير للامة الاسلامية ، فهناك سلاح اخر لا يقل فتكا وخطرا منه الا وهو الفتنة “السنية السنية” ، وهذا السلاح عادة ما يُفعّل في دهاليز اجهزة الاستخبارات الغربية كلما افتقدت هذه الاجهزة للعنصر “الشيعي” للابقاء على نيران الفتنة مشتعلة لتأكل اخضر ويابس المسلمين.
ويمكننا ان نتلمس حرارة نيران هذه الفتنة ، الفتنة “السنية السنية” ، من خلال الاحداث الدامية ، التي كثيرا ما تشكل العنوان الابرز لمشهد العلاقة بين المجموعات المسلحة التي تحمل العقيدة الوهابية والفكر السلفي التكفيري ، بدء من القاعدة ومرورا ب”داعش” و “النصرة” وانتهاء بالتنظيمات المسلحة الاخرى في اسيا وافريقيا.
مهما حاولت الجهات التي تقف وراء هذه المجموعات تبرير الصراع الدامي بينها ، الا ان هذا التبرير لا يقنع المراقب نظرا لتماثل هذه المجموعات بكل شيء تقريبا حتى بالاسماء! ، الامر الذي يلقي ظلالا ثقيلة من الشك والريبة حول هذه التبريرات ، ويدفع المراقب للبحث عن الاسباب الحقيقية التي تجعل نيران الصراع مضطرمة بين رفاق العقيدة والاهداف والسلاح.
لم يعد خافيا الدور الذي لعبه المذهب الوهابي والدولار السعودي والاستخبارات الباكستانية (اي سي اي) و الدعم الامريكي اللامحدود ، في تاسيس القاعدة وطالبان ابان الغزو السوفيتي لافغانستان ، فهذه حقيقة اعترف بها جميع الاطراف وعلى رؤوس الاشهاد ، عندما كان الجميع متحدون ضد عدو مشترك واحد وهو “الجيش الاحمر الملحد” الذي غزا افغانستان ١٩٧٩، وفقا للمخطط الامريكي الغربي
هذا الوليد الذي خرج من رحم التحالف السعودي الباكستاني الامريكي ، تحول بمرور الزمن الى عامل مهم يفرش السجاد المخضب بدماء الابرياء للقوات الامريكية والغربية للتدخل في شؤون البلدان الاخرى مثل افغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال واماكن اخرى من العالم ، تحت تبريرات ضعيفة الحجة مثل : “انقلاب السحر على الساحر” ، وان الجماعات التكفيرية “شبت عن الطوق” ، وانها اخذت “تتمرد على اسيادها” ، الامر الذي يقتضي ان تدخل امريكا بقضها وقضيضها في شؤون الدول التي نكبت بالقاعدة واخواتها للقضاء على هذا المتمرد.
ولما كان في مصلحة امريكا والغرب الابقاء على المجموعات التكفيرية طوع بنانها ، فكان لابد من ضربها ببعض لتحقيق هدفين ، الاول جعل جذوة الفتنة مستعرة دون هوادة بين هذه المجموعات وانصارهما ، والثاني هو تقليم اظافر كل مجموعة يمكن ان تفكر في ابعد ما هو مناط بها ، وفقا للمخطط الامريكي العام المرسوم لمنطقة الشرق الاوسط وشعوبها.
ومن اهم السيناريوهات الامريكية في مجال زرع الشقاق وخلق فتنة “سنية سنية” داخل المجموعات المسلحة ذات العقيدة الواحدة هي صناعة “الخلفاء” و “الامراء” ، وهذه الصناعة كفيلة في ايجاد انشقاق طولي يقسم التنظيمات الى شطرين ، كما ظهرت بوادر هذا الانشطار داخل القاعدة ابان الغزو الامريكي في العراق ، رغم مبايعة ابو مصعب الزرقاوي اسامة بن لادن عام ٢٠٠٤ وتاسيسه “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” ، حيث اخذت تتكشف الخلافات بين الزرقاوي و بن لادن ومساعده حينها ايمن الظواهري ، من خلال الرسائل النصية والصوتية التي تبادلوها ، فقد انتقد زعيما القاعدة ، الاساليب التي كان يعتمدها الزرقاوي في العراق.
استمر سماع صوت التشقق الطولي في بناء القاعدة يأتي من العراق ابان زعامة ابو عمر البغدادي ومن بعده ابو بكر البغدادي ، حيث تمرد الاخير وبشكل علني على اوامر زعيم القاعدة ايمن الظواهري الذي دعاه الى الانسحاب من سوريا ، ليترك “بلاد الشام ” ل”جبهة النصرة” الممثل الوحيد ، ولم يكتف بالرفض بل اعلن عن تشكيل “دولة العراق والشام الاسلامية ” “داعش” وبعد ذلك اعلن قيام دولة الخلافة واصبح خليفة للمسلمين ودعا الظواهري لمبايعته ، وسالت انهار من الدم بين “داعش” و “جبهة النصرة” في سوريا ومازالت تسيل حتى اليوم.
الملفت ان كل الصراع الدموي والقتل والذبح بين الجانبين يستند الى تبريرات وفتواى دينية ، مستمدة وفق رواية الجانبين من الكتاب والسنة!!، فعندما أعلن زعيم القاعدة أيمن الظواهري إلغاء ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) ومواصلة عملها تحت مسمى “دولة العراق الإسلامية” خارج سوريا وإبقاء نشاطها في العراق، وأن “جبهة النصرة” بزعامة ابو محمد الجولاني هي فرع القاعدة في سوريا ، هاجم المتحدث باسم “داعش” أبومحمد العدناني، الظواهري، موجها له انتقادات لاذعة في كلمة نشرتها مواقع تستخدم لبث بيانات “داعش” وحملت عنوان “عذرا أمير القاعدة” قال فيها: … لقد وضعت نفسك وقاعدتك اليوم أمام خيارين لا مناص عنهما إما أن تستمر على خطئك وتكابر عليه وتعاند ويستمرالقتال في العالم وإما أن تعترف بخطئك….. .. وندعوك ثانيا لتصحيح منهجك .. وعدم التلاعب بالأحكام والألفاظ الشرعية .. وكفاك تلبيسا على المسلمين لتصحيح منهجك .. وعدم التلاعب بالأحكام والألفاظ الشرعية .. وكفاك تلبيسا على المسلمين.
وفي المقابل انتقد اكبر منظري السلفية الجهادية امثال عاصم البرقاوي المعروف بأبي محمد المقدسي ، وعمر محمود المعروف بأبي قتادة الفلسطيني، “داعش” بعد إعلان البغدادي نفسه خليفة للمسلمين وقيام دولة الخلافة ، حيث شن هجوما عنيفا على أبوبكر البغدادي، واصفا إياه بأنه “كذاب ضال” وبأن تنظيمه “من كلاب النار” »
اما أبومحمد المقدسي، فقد شن هجوما على “داعش” لا يقل عنفا من هجوم ابو قتادة ، عندما سئل عن رأيه في دولة البغدادي وخلافته فقال :”الذي يهمني جدا هو ماذا سيرتب القوم على هذا الإعلان والمسمى الذي طوروه من تنظيم إلى دولة عراق ثم إلى دولة عراق وشام ثم إلى خلافة عامة؛ هل ستكون هذه الخلافة ملاذا لكل مستضعف وملجأ لكل مسلم؛ أم سيتخذ هذا المسمى سيفا مسلطا على مخالفيهم من المسلمين؛ ولتشطب به جميع الإمارات التي سبقت دولتهم المعلنة، ولتبطل به كل الجماعات التي تجاهد في سبيل الله في شتى الميادين قبلهم .. نقول محذرين للوالغين في دماء المسلمين كائنا من كانوا: لا تظنوا أنكم بأصواتكم العالية ستسكتون صوت الحق؛ أو أنكم بتهديدكم وزعيقكم وقلة أدبكم وعدوانكم ستخرسون شهاداتنا بالحق لا وألف لا .. “.
الجهات التي وجهت ودفعت “داعش” و”الخليفة البغدادي” الى التمرد على القاعدة وزعيمها ايمن الظواهري ، يبدو انها بدات بتوجيه عناصر من داخل “داعش” للتمرد على “الخليفة ” ، هذه المرة ، فقد اعلنت “داعش” في شريط مصور اعتقال خلية مؤلفة من أربعة من عناصرها يتحدثون اللغة التركية خططوا للانقلاب عليها وزعزعة الأمن في مناطق سيطرتها، ووذكرت أنهم يتبنون أفكاراً دينية أكثر تشدداً من تلك التي يعتمدها “داعش” .
وعرض التسجيل الذي جاء تحت عنوان “القبض على خلية من الغلاة خططت للخروج على دولة الخلافة”، مقطعاً صوتياً لأشخاص يتحدثون باللغة التركية أعلنوا فيه نيتهم حمل السلاح ضد “داعش”.
وقال هؤلاء في التسجيل الصوتي وفي ما قدم لاحقاً على أنها اعترافات من قبلهم إنهم “قرروا مقاتلة تنظيم “الدولة الإسلامية” كونه تنظيم كافر بنظرهم على اعتبار أنه لا يكفر الشعبين السوري والعراقي، وأن زعيمه أبو بكر البغدادي يأخذ الأموال من (شعب كافر)، وبالتالي فهو كافر أيضاً”.
فتواى التكفير الصادرة عن “الخلفاء” و “الامراء” و “الدعاة” و “الفقهاء” ما اسرع ما تجد طريقها الى التطبيق عمليا ، حيث سقط الالاف من القتلى بين المجموعات المسلحة خلال السنوات الاربع الماضية بتهمة الكفر والارتداد ، وهو مشهد لا ينحسر في سوريا فقط فهذه ليبيا ، التي تشهد حربا لا تقل ضراوة عن الحرب الدائرة بين “داعش” و “النصرة” وحلفائهما في سوريا ، فهناك قتال دام في شرق ليبيا ، وهناك سلطتان تنفيذيتان وسلطتان تشريعيتان ، وهناك عشرات التنظيمات المسلحة التي يكفر ويخون بعضها بعضا ، بينما الخاسر الوحيد هو المواطن الليبي البسيط ، الذي يرى بام عينيه ان بلاده ماضية نحو التقسيم.
رفاق العقيدة والسلاح لهذه المجموعات في باكستان وافغانستان ،واجهوا ذات المصير ، التكفير والقتل ، فقد دبت الفتنة داخل اكثر التنظيمات دموية في باكستان ، الا وهو تنظيم “جيش جهنكوي” ، الذي انشق بدوره من التنظيم الوهابي التكفيري المتطرف “جيش الصحابة ” ، وذلك بعد أن بدأت الحكومة الباكستانية عملياتها ضد عناصر “جيش جهنكوي” في عام ١٩٩٨، وهروب معظم عناصره الى أفغانستان، حيث كانوا يديرون معسكرات تدريب، وهناك حدث انقسام في صفوف “جيش جهنكوي” عندما وقع خلاف بين مجموعة يتزعمها قاري عبد الحي، ومجموعة يتزعمها رياض بصرة بشأن تنفيذ موجة من الاغتيال تستهدف الشيعة في باكستان، ووقعت اشتباكات دامية في ايلول/سبتمبر ٢٠٠٠ بين المجموعتين في كابول، أدت إلى حمام من الدماء، وتمكنت جماعة رياض بصرة من القضاء على جماعة عبد الحي بالكامل.
من خلال ما تقدم ، هل بالامكان ان نبرر الخلاف بين الظواهري والبغدادي او بين البغدادي والجولاني او بين التنظيمات المتطرفة التي تتقاتل في ليبيا ، او بين متطرفي التنظيمات التكفيرية في باكستان وافغانستان ، بانها تعود لخلافات فكرية او عقيدية او شيء من هذا القبيل؟، من المؤكد ان الجواب على هذا السؤال هو النفي ، فجميع هذه التنظيمات هي تنظيمات وهابية سلفية جهادية ، تناصب العداء لشيعة اهل البيت عليهم السلام ، وتكفر كل المسلمين الذين لا يشاطرونها مذهبها ، وليس للقضية الفلسطينية اية اهتمام في ادبياتها ، ولا ترى في الصهيونية عدوا ، ولديها نظرة ضيقة متزمتة للدين والحياة والانسان ، تستخدم افظع الوسائل لتحقيق غاياتها ، ولا تتوانى عن تسجيل كل جرائمها البشعة بالصوت و الصورة ، لذلك فان الحديث عن وجود خلاف ايديولوجي بينها امر لا يستسيغه عقل ، لذلك لم يبق سوى وجود ارادة خارجية تتلاعب في القيادات العليا لهذه التنظيمات وتوجهها وفقا لمخطط قد تم الاعداد له بدقة بهدف تشويه صورة الاسلام والمسلمين امام شعوب العالم اجمع ، واشغال المسلمين بقضايا جانبية تافهة ، لانقاذ الكيان الصهيوني الذي زرعه الغرب في قلب العالم الاسلامي.
المتتبع لسردنا هذا يرى بوضوح انه ليس هناك اي ذكر او اثر للمسلمين الشيعة في الصراع الدائر بين هذه التنظيمات التكفيرية المسلحة ، وهو ما يؤكد ان ما تروج له هذه التنظيمات من انها جاءت للدفاع عن السنة امام “الروافض” و “المجوس” و.. الى اخر القائمة السخيفة من الاتهامات ، هي كذبة كبيرة لا تنطلي الا على السذج والبسطاء ، فالفتنة التي يشهدها العالم الاسلامي اليوم هي فتنة تقف وراءها اجهزة استخبارات دول غربية وعربية رجعية بالاضافة الى الصهيونية العالمية ، تنفذها شخصيات صنعتها هذه الاجهزة ك”الخليفة” و “امير المؤمنين” والامير” و “الداعية” و .. وحطبها المسلمون البسطاء.