المُعتمد ورفوف الكتب
المعتمد canon في أدب كل ثقافة هو بديهياتها المُكرّسة. إنه مجموع الأعمال التي عُدّت “عظيمة” و”قيّمة” و”خالدة”، وهي لذلك تستحق أن تُقرأ وتُدرس وتُدّرس جيلاً بعد جيل. وكما هو الحال مع كل المفاهيم الأدبية والنقدية، أثار مفهوم المعتمد ردود أفعال متنوعة: دافع عنه مفكرون كبار لأسباب فلسفية ونقدية عميقة مثل هانز جورج غادامير ونورثرب فراي وهارولد بلوم. ودافع عنه مخططو سياسات ثقافية لأسباب أيديولوجية محض (كما في المُعتمدين المختلفين للأدب الألماني في الألمانيتين قبل التوحيد).
متاهة المكتبة الضخمة
لكننا نجد بين المدافعين عن المعتمد لأسباب نقدية محضة خلافاتهم أيضاً بصدد انتقاء ما يستحق عبور بواباته الضيقة، كما في الخلاف بين غادامير وولفغانغ آيزر في طبيعة الأعمال الجديرة بالتكريس.إذ رأى الأول أنها الكلاسيكية المؤسِسة للتقليد بينما ذهب الثاني إلى أنها تلك التي تتحدى التقليد وتوفر الفجوة المحرّكة لفعل القراءة (هذا بالرغم من أن آيزر تبنّى الكثير من مفاهيم غادامير المحورية).
إن جولة في مكتبة عامة عامرة بمئات الآلاف وربما الملايين من الكتب كفيلة باستحضار أسئلة المُعتمد بكل حدّتها وشرعيتها. يشكو الكثير من الكتاب الكبار من أنهم كابدوا وهم يتجولون بين رفوف الكتب الطويلة جزعاً وقنوطاً يتعلق بمهمتهم ككتّاب (عبّر عن ذلك نجيب محفوظ في سلسلة لقاءاته مع رجاء النقاش). ما الذي يمكن أن يضيفه الأديب الفرد الضائع في متاهتها إلى ما قال كل هؤلاء من قبل؟ وإذا كانت غزارة رفوف الكتب تمثل تهديداً بابتلاع أي جهد يبذله الأديب في غياهبها السحيقة، فإن المعتمد يمثل عقبة من نوع آخر أشد صعوبة: كيف يمكن للأديب تأمين مكان راسخ بين كوكبة النخبة المتحصنة في قلاعها الشاهقة الأبدية؟
الجوائز الأدبية
هنالك عدّاد متحرك على الشبكة العنكبوتية يتابع ما يُسجّل لدى اليونسكو من كتب تصدر في كل أنحاء العالم، وهو عداد نابض متسارع لا يهدأ. سجّل مع نهاية الشهر الأول من هذا العام (2015) رقماً يزيد على 223250 (علماً أن الكثير من الإصدارات في العالم لا تُسجل لدى اليونسكو). لن يتمكن القارئ مهما كرّس من وقت أو جهد الإحاطة بما يملأ كأساً صغيراً من ماء هذا البحر المتلاطم. وهي مشكلة يعاني منها كل القرّاء وحلّها يمثل بدوره مشكلة أخرى لا تقل صعوبة: هنالك من ينتقي لنا ما نقرأ؛ إنه الناقد والصحفي ولجان تحكيم الجوائز الأدبية ثم المعتمد الأدبي الموروث في كل ثقافة. تمارس كل هذه الجهات في سياق تقديمها العون لنا وتنويرنا ضرباً من القوة المتعسفة على أذواقنا واختياراتنا لما نقرأ. الجوائز الأدبية أصبحت في يومنا هذا البوابة الأوسع للنجاح والتكريس. ولا ضير في ذلك كما أرى، لأن الجوائز التي تحترم اسمها تحرص على عدم الترويج لعمل ضعيف ركيك. هنالك حدٌّ أدنى من الجودة الأدبية يضمنه القارئ عندما يقرر منح وقته لعمل فاز بجائزة مرموقة. لكن لهذه الجوائز وجهاً كالحاً يختفي عن جمهور القراء عادة؛ ذلك أن الأعمال الفائزة ليست أفضل ما كُتب بالفعل، وهنالك في الغالب عشرات الأعمال الأفضل منها التي لا تحوز على رضا لجان التحكيم لأسباب فنية أو أيديولوجية أو سياسية متنوعة، وهذه الأعمال تتعرض لضرر كبير بسبب الاحتكار الذي تمارسه الجوائز وأصحابها على خيارات القراء. الجوائز العربية تحديداً، شأنها شأن أية ممارسة للسلطة في حياتنا، تعاني من غَلَبة المعيار السياسي عليها على نحو سافر لست في معرض التوسع فيه هنا.
مغامرات في القراءة القصوى
ما دعاني إلى هذه المراجعة السريعة لبديهيات المُعتمد والرعاية الأدبية كتابٌ صدر العام 2014 عن فيرار وشتراوس للكاتبة الأميركية فيليس روز Phyllis Rose بعنوان “الرف من ليك إلى ليس: مغامرات في القراءة القصوى” . تتصدر الكتاب مقولة للحكيم خورخه لويس بورخيس يطمئن بها الوساوس التي تثيرها الرفوف الطويلة في “مكتبة بابل” بالقول: ” في المكتبة الهائلة، لا يوجد كتابان متماثلان حدّ التماهي.”
وهي مقولة مدهشة وصائبة تعيد الاعتبار إلى كل الكتب التي تحتويها مكتبات العالم.
تنطلق فيليس روز مـــن مقولة بورخيس هذه لمشاكسة بديهية المُعتمد والمُكرّس بتجربة قراءة أقرب إلى النزوة، بدلاً من اعتماد حرّاس بوابات القراءة في اختيار ما تقرأ (وهؤلاء الحراس هم في العادة من القائمين على إعادة الكتابة بتعريف لوفيفر لهم)، تعتمد موقفاً يحيّد دورهم لقناعتها أن لكل كتاب بصمته الخاصة الجديرة بالتأمل. تقرر روز أن تختار عشوائياً رفاً يبدأ بالحروف LEQ وينتهي بالحروف LES في إحدى مكتبات نيويورك فتقرأ كل ما فيه من كتب دون اعتماد دليل خارجي.
لا يحدّ خيارها في الواقع إلا أن يكون الرف لمجموعة من الكتّاب لا يختص بكاتب واحد بعينه لتضمن التنوع.
بعيدا عن توصيات النقاد
ما يتبقى من كتاب روز قراءات معمقة في كتب غير معروفة كُتبت وطواها النسيان لسبب أو لآخر. وهي تبدأ القراءة من فراغ، أي أنها لا تكتفي بالاستغناء عن توصيات النقاد، بل ولا تختار الكتاب سعياً للحصول على إجابة عن سؤال أو لشاغل محدّد. من هنا طرافة المغامرة؛ إنها تعطيل لأية حواجز بيننا وبين الكتب التي لا نقرأها.
ولكن، بالرغم من تحوطات روز في معانقة الكتب دون حواجز فإنها تكتشف أن القارئ يبقى يتأثر بكل ما يتصدر الكتاب من آراء ويتناثر على متنه من هوامش ( تجربتها في قراءة ترجمة فلاديمير ناباكوف لرواية ليرمنتوف “بطل من زماننا” من الروسية إلى الإنجليزية تقودها إلى قراءة ترجمات أخرى للرواية ذاتها تلاحظ عند مقارنتها مع ترجمة ناباكوف أن مترجميها قد تنحّوا جانباً عن النص على خلاف ناباكوف المشغول بنفسه ومواهبه.) تنتهي الكاتبة إلى استبصار جدير بالتأمل: إن للقارئ دوراً كبيراً في إغناء تجربة القراءة.
حين ننتهي من الكتاب نكتشف نجماً جديداً هو القارئة فيليس روز التي حوّلت بمهاراتها وعمق إسقاطاتها على الكتب كل ما قرأته إلى مادة مثيرة جديرة بالتوقف عندها وتأملها. أما ما نتعلمه نحن من هذا الكتاب الممتع فهو الحركيّة الحيّة جيئة وذهاباً بين المعتمد والرف بوصفها مصدر تجديد للعقل
والحياة
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق