السياسة السعودية تجاه اليمن: عقود من الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية
ياسين مدني /
إنّ أهمّ ما يميّز اليمن عن البلدان العربية الأخرى يرجع في الأساس إلى موقعية هذا البلد الجيوسياسية في جنوب الجزيرة العربية وتحديداً في جوار المملكة العربية السعودية، على طول شريط حدودي مشترك يتعدّى الـ1500 كلم، فضلاً عن النسيج السوسيولوجي والتنوع السياسي والثقافي ـ الإنساني الذي يصبغ المجتمع اليمني.
ونظراً إلى أهمية موقعية اليمن بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، كانت الرياض ولا تزال اللاعب الأساسي في الأحداث السياسية الدائرة فيه، من خلال سياسات لم تكن في غالبيتها مدروسة ولا تصبّ بمجملها في صالح الشعب اليمني والمنطقة.
فما هي إذاً هذه السياسات وما هي الأخطاء الكامنة فيها؟
لقد تجلّت السياسة السعودية تجاه اليمن عبر فرض استراتيجيات طويلة الأمد وردود فعل تكتيكية حيال بعض القضايا المستجدة. وأهمّ ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال هو السعي السعودي الحثيث إلى إرساء تبعية يمنية كاملة للمملكة والتعامل مع الشعب اليمني تعاملاً «فوقياً». وهذا خطأ استراتيجي تترتب عليه تبعات كبرى لا تزال تعاني منها.
بمعنى آخر، إنّ كلاً من المملكة واليمن تعدّ عمقاً استراتيجياً للدولة الأخرى، وما يحدث في الأولى من تطوّرات يلقى تردّداته حكماً في الثانية والعكس صحيح. ومع أنه يُفترض في مثل هذه الحالة أن تسعى السعودية إلى استقرار الأوضاع في اليمن، إلا أنّ المملكة بنت سياستها طوال العقود الماضية وفق ثابتة أن يظلّ اليمن ضعيفاً ومنقسماً ومتوتراً، وأن لا تتشكل فيه حكومة مركزية قوية قد تشكل يوماً ما مصدر خطر على السعودية. وربما تكون هذه السياسة نابعة مما أشار إليه الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في وقت سابق ضمن «المقالات اليابانية» 1998 والتي تحدث فيها عن وصية الملك السعودي عبد العزيز لأبنائه من على فراش الموت بأنّ عليهم «أن يحاذروا من يمن موحّد، فهذا خطر عليهم وعلى المملكة التي سيرثوها من بعده، وأنّ عليهم أن يتذكروا دائماً أنّ ضمان رخائهم مرهون ببؤس اليمن». وبالتالي يترتّب على هذه السياسة توفير أرضية خصبة في اليمن للإرهاب وإيجاد فراغ تملؤه التنظيمات الإرهابية المسلحة كتنظيم «القاعدة».
الخطأ الاستراتيجي الثاني، يتعلق بسياسة المملكة تجاه الربيع العربي واستمرارها في اليمن. فلو لاحظنا السياسات السعودية خلال السنوات الأربع الماضية في مقاربة الحركة الشعبية اليمنية، سنجدها امتداداً للسياسات التي تبنّتها السعودية حيال سائر الانتفاضات العربية، حيث شعرت المملكة بالتهديد من قبل الجماهير التي كانت تطالب بالتغيير الديمقراطي. فأخذت المملكة على عاتقها مناهضتها، مستخدمة ثروتها النفطية لضمان عودة العالم العربي إلى وضعه السابق. وكانت المملكة تنظر إلى جميع الانتفاضات الشعبية على أنها «تحركات طائفية يتمّ تنظيمها برعاية خارجية». وبذلت السعودية جهوداً ضخمة لدعم الحكومات وبعض الشخصيات المحسوبة عليها في اليمن متحدّية الإرادة الشعبية.
أما الخطأ الاستراتيجي الثالث، فكان رهان المملكة على شخصيات سياسية في اليمن دون الأخذ في الحسبان مطالب الشعب اليمني. وأبرز نموذج على هذا الخطأ هو الرهان السعودي على عبد ربه منصور هادي الذي يفتقر إلى الشعبية لدى الجمهور اليمني بعدما فشل في تقديم نفسه كحامل لواء مشاريع العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن والشراكة في السلطة، كما أنه وعلى الرغم من عودته إلى الجنوب، الذي يُعتبر الحاضنة الشعبية له نظرياً لكونه مسقط رأسه أصلاً، إلا أنه لا يزال ضعيفاً على المستويين الشعبي والسياسي. ولو نظرنا إلى مكوّنات المجتمع الجنوبي بكلّ فئاته وأطرافه وقبائله وتوجهاته، مع الأخذ في الاعتبار أنّ هادي هو الذي غزا الجنوب عام 1994، سنجد أنّ هناك مشاكل كبيرة تراكمت خلال سنوات بين هادي وبين الفصائل الجنوبية التي يُعتبر بعضها من دعاة الانفصال.
الخطأ الرابع، يعدّ ضمن أخطائها التكتيكية وهو يتمثّل بنقل السفارة السعودية إلى عدن، وهي مبادرة أثبتت أنّ السياسة الخارجية السعودية تفتقد إلى الرؤية والاستراتيجية المدروسة. فتحت ذريعة دعم الرئيس المستقيل بدأت المملكة اللعب بورقة التقسيم وحرّضت باقي الدول الأعضاء في مجلس التعاون وحتى الدول الأوروبية التي أغلقت سفاراتها في صنعاء لأسباب أمنية لتحذو حذوها، من دون الأخذ في عين الاعتبار التداعيات الكارثية لمثل هذه السياسات على اليمن والمنطقة وحتى على السعودية نفسها. فكانت النتيجة أن فشلت هذه السياسة بعد رفض الدول الأوروبية وبعض الدول العربية نقل سفاراتها إلى عدن. ولم تنجح المملكة حتى في توحيد الآراء العربية حيال هذه المسألة، بهدف «إعطاء شرعية» مفقودة لحكومة الرئيس المستقيل، وهذا ما يذكّرنا بتغريدة للنائب السابق في مجلس الأمة الكويتي ناصر الدويلة، أكد فيها أنّ اليمن يدفع ثمن أخطاء السعودية وأنه يجب أن يتسع صدر السعودية لسماع الرأي الآخر.
وربمّا يكون من السابق لأوانه الحديث عن الأخطار التي تترتب على سياسات السعودية في اليمن، لكنّ المشهد اليمني يبدو اليوم مفتوحاً على الاحتمالات كافة، والأخطاء التي يرتكبها الرئيس المستقيل مدعوماً من السعودية يمكن لها أن تسرّع من تقسيم الدولة اليمنية. فمثل هذه السياسات توفر البيئة الملائمة لتصاعد التوترات وتزيد الميول الانفصالية وتعبّد الطريق أمام المجموعات الإرهابية المحسوبة على تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، في وقت تشكل وحدة اليمن اليوم المسألة الأهمّ التي يجب على جميع الأطراف والقوى السياسية التمسّك بها.
وحقيقة فإنّ اليمن هو في أمسّ الحاجة اليوم إلى إدارة سياسية مشتركة تتمثل فيها جميع الأطراف السياسية، لا يمكن إيجادها إلا في ظلّ حوار وطني صريح وشامل وتعاون بين الأطراف. فاستقرار الحكم في اليمن يحصل فقط عبر التوافق والشراكة بين أبنائه جميعاً ولا يمكن لأيّ فريق أن يحكم اليمن بمفرده ولا أن يحتكر السلطة ويقصي غيره.
وفي ما يتعلق بالمبادرة السعودية لنقل الحوار الوطني إلى الرياض، ينبغي القول إنّ أيّ حوار وطني يجب أن يتمّ داخل الحدود اليمنية للحيلولة دون تأثره بأية عوامل سلبية، كما يَفتَرض أن لا يتمّ تهميش أيّة تيارات سياسية لأنّ اليمن في حاجة ماسّة إلى حكومة وحدة وطنية ائتلافية تتمثل فيها كافة الفئات والمشارب اليمنية، تكون مهمّتها إخراج البلاد من أزمتها الحالية نحو الاستقرار والديمقراطية.