كيف أظهر اللاعب الإيراني حقيقة الصورة المعقدة للمنطقة الشرق الأوسط نموذجاً (الجزء الثالث)
إنه زمن التحولات التي ستطيح بالواقع المرسوم، وتأتي بواقعٍ جديد. فالزمن الذي تَرسم أمريكا فيه السياسات وتفرضها قد تغير. واليوم نعيش في زمنٍ يمكن القول إن رواده لاعبون جدد، يختلفون مع الأمريكي ليس بالسياسة العملية فقط، بل يتعارضون معه في المبادئ والمنطلقات. وما هو مهمٌ في قراءة الواقع الجديد، أن الجغرافيا السياسية للمنطقة تتغير أيضاً، مما يعني بالمفهوم الإستراتيجي المتعلق ببناء الأنظمة، أن الواقع الجذري للمنطقة سيتغير. فكيف يمكن تحليل التاريخ السياسي المتعلق بالمنطقة؟ وكيف يرتبط ذلك بالواقع السياسي اليوم، في وقتٍ أصبح فيه اللاعب الإيراني عراب السياسات الجديد؟
عندما وقعت إتفاقية كامب ديفيد، كانت أمريكا تفقد حليفها إيران حينها، مع نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية. واليوم أصبح بالإمكان قراءة التاريخ السياسي بطريقة مختلفة عن الماضي. فالحدث الإيراني الذي ظن البعض حينها أنه حدث عابر، يمكن اليوم التأكيد على أنه حدثٌ شكل منعطفاً في التاريخ السياسي للمنطقة بأسرها. فالتعاطي مع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية على أنه ليس سوى تغيير حكمٍ وتبديله بآخر، يعني أننا لا نتقن فن فهم حقائق الأمور. لأن اليوم عندما تثبت إيران أنها دولة تمتلك مقومات بناء خريطة المنطقة والتحكم بالسياسات العملية فيها، فهذا يعني أن هذا الإنجاز لدولة محاصرة اقتصادياً كإيران، يؤكد على القدرة العالية للمخطط الإستراتيجي الإيراني، في رؤية الأمور المستقبلية، ومعرفته الدقيقة في كيفية التأسيس لواقعٍ يحضن الأهداف. ومن هنا يُنظر لمؤسس الجمهورية الإسلامية، الإمام روح الله الموسوي الخميني(قدسره) على أنه أول مفكرٍ إستراتيجي في التاريخ المعاصر، والذي استطاع بناء وتأسيس أرضية المنعطفات الجذرية. في الوقت الذي كان العالم بأسره، ينظر الى اللاعب الأمريكي بأنه نهاية العالم. ولا شك أن إيران المستمرة على نفس الخطى مع المفكر الإستراتيجي الإيراني الخلف باعتراف أدمغة التخطيط الإستراتيجي الأمريكية والإسرائيلية، السيد علي الخامنئي(دام ظله) تتقن جيداً فن نسج سجادة السياسات الإستراتيجية، والتي تحتاج الى عقل بارد وهدوء أصلب من التحديات، وهذا ما يتميز به اللاعب الإيراني طبيعةً .
وبالعودة الى الواقع الجديد اليوم، لا يمكن فصل الحاضر عن الماضي. فالقدرة المبنية اليوم ليست إلا حصيلة تأسيسٍ بدأ منذ زمن بعيد. ولسنا نسلط الضوء على نجاحات إيران لمجرد الكلام فقط، بل للقول بأن إخفاقات الآخرين ليست أيضاً من دون سبب. ففي الوقت الذي كانت فيه إيران تؤسس لواقعها الداخلي الجديد، وهي التي استطاعت في ظرف ٣٠ عاماً أن تنهض لمستوى الدول المتقدمة، لم تغفل عن نسج شبكة جديدة من العلاقات الخارجية ولو بهدوء، انطلاقاً من مبادئ ثابتة وراسخة. وفي المقابل، كانت دول الخليج الفارسي والأنظمة العربية، والتي كانت ومازالت تحت العين الأمريكية، تسبح في بحر السياسة الامريكية، وتتمايل مع الهواء الغربي، الذي حدد لها أهدافها، بل ساهم في بنائها، فكان صاحب الجميل في كل التفاصيل. وبالتالي كانت تؤسس لتبعية دائمة المصير، لا يمكن إلا لوعي الشعوب أن يغيرها. وهذا ما لم ينساه الإمام الخميني أيضاً .
فمدرسة الواقعية السياسية، إلى جانب محورية الجغرافيا السياسية هي الأساس الذي تحركت عليه إيران لبناء منظومة المستقبل الواعد لشعوب المنطقة. وإدراك اللاعب الإيراني لحقيقة أن الصهيونية العالمية بتعدد أوجهها وأساليبها، تسيطر على مقتدرات الشعوب، وتتحكم بمفاصل حياة الأمم، مما جعله يحمل منذ البداية هم تحرير الشعوب والأمم. وعلى عكس ذلك لم تفقه الدول الخليجية والعربية، أياً من هذه الحقائق، فغرقت وأغرقت نفسها في وحول السياسة الإسرائيلية الأمريكية، وكانت الطرف الذي يسعى ومايزال لحفظ أمن الكيان الإسرائيلي .
لذلك فإن المشهد السياسي اليوم هو ترجمة لحقيقة هذا التوصيف ولكن على صعيد النتائج. فالمنطقة التي ظن الإسرائيلي الغاصب والأمريكي المتغطرس أنه استطاع الحصول عليها وللأبد، نجد أنها تتعرض لعملية إعادة خلط أوراق لن تكون نتيجتها كالمعتاد. بل ستتخطى النتيجة طبيعة الأوراق، لتصل الى طبيعة اللاعبين السياسيين. وكذلك الأمر لدول الخليج الفارسي والدول العربية الأخرى باستثناء سوريا. فجميعهم كانوا يسبحون في البحر الأمريكي على متن السفينة الإسرائيلية. وبالرغم من أنهم استخدموا النفاق السياسي بإتجاه قضايا الأمة، وهو ما يمكن اختصاره بالقضية الفلسطينية كمثالٍ لمركزية الصراع، أثبتت الأيام أنهم ومنذ البداية صناع المركب الأمريكي، استخدمتهم الصهيونية التي أسست أمريكا، لتؤسس من خلالهم الواقع العربي الهش. وهكذا تحفظ لنفسها استمرارية الكيان، وتُخرج نفسها ولو مؤقتاً من مشكلة صراع الوجود المقلق .
وهنا يسجل لإيران أنها وعلى عكس الجميع دون استثناء، كانت ومنذ البداية تُؤسس لبناء مركبها السياسي الخاص. بل تخطت ذلك، لتبني واقعاً جديداً سيضطر الآخرون لتعلم كيفية التأقلم معه. فالمركب الإيراني ليس مؤهلاً ليركبه إلا اللاعبون أصحاب المبادئ والقيم الراسخة. وما على اللاعبين الذين استغرقوا سنينهم السياسية في ركوب سفن الآخرين، إلا أن يُحضِّروا أنفسهم للغرق في بحرٍ جديد، ترسم خريطته إيران اليوم. فخبرتهم في النفاق السياسي والتبعية الأمريكية لن تنفعهم بعد الآن. ورهاناتهم على استمرار الصهيونية في حكم العالم، سقطت. وهنا يأتي السؤال الأهم: كيف سيدير القبطان الإيراني سفينته الجديدة؟ وهل سيفصح عن وجهتها في المستقبل القريب؟
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق