كيف تتقن إيران قواعد لعبة الشطرنج السياسية إخراج الكيان الإسرائيلي من اللعبة السياسية (الجزء الثالث)
لم يغب الكيان الإسرائيلي عن المشهد السياسي، كما هو الحال اليوم. فهذا الكيان وعلى الرغم من سياسته الهمجية المبنية على التعالي، كان حتى الماضي القريب، شريكاً في صناعة القرارات التي تخص المنطقة. لكن مشهد الصراع اليوم يظهر غيابه عن الساحة السياسية. صحيحٌ أنه يمكن القول إن الصهيونية العالمية ما تزال قوية، وتسيطر على مراكز قرارٍ عالمية، لكن الأصح أن قوة الصهيونية العالمية تراجعت، وهذا ما يبرر الصراع الإسرائيلي الأمريكي المتعلق بالموقف من إيران. ومهما اختلفنا في توصيف واقع وحقيقة التباين الأمريكي الإسرائيلي، لكننا نتفق على أن إيران استطاعت ضرب هذا الحلف الذي بقي فولاذياً لزمن طويل. حتى أن إيران، تمكنت من إخراج الكيان الإسرائيلي من المشهد السياسي، وإن كان ما يزال يؤثر بطريقةٍ غير مباشرة. فكيف استطاعت السياسة الإيرانية، إخراج ما يسمى بالكيان الإسرائيلي، بعد إحراج المدعوة أمريكا؟
في الوقت الذي اجتمع فيه العرب المشرذمون في شرم الشيخ اليتيمة الباحثة عن كفيل لها، واصلت أمريكا التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي. ولا شك أن مسيرة التفاوض سادها التنازل الأمريكي عن كل المبادئ التي كانت تبنتها، في مقابل الثبات الإيراني. إن الاتفاق بين الطرفين لم ولن يستطيع نزع حق إيران النووي. فهذا الأمر ليس محط جدال. لكن إيران التي قد تستفيد في حال تم التوصل لرفع العقوبات الاقتصادية عنها، منتصرةٌ في مختلف الأحوال. فإيران ماضيةٌ فيما تريد، وبالتحديد مسألة الاستفادة من قدراتها النووية، كما أنها تأقلمت على الصعيد الاقتصادي مع مسألة العقوبات المفروضة. فمجرد وجود المفاوضات مع إيران وبالطريقة الحاصلة والتي أظهرت ضعف الطرف الأمريكي، رفعت من مكانة إيران في المنطقة. وهذا ما أثار حفيظة الكيان الإسرائيلي، وأدخله في شباك سياسي مع أمريكا. وهكذا تكون إيران نجحت في إيجاد شرخ واضح بين مصالح أمريكا الإستراتيجية في المنطقة، وبين مصلحة الكيان الإسرائيلي القلق من صراع الوجود. فعلى الرغم من أن أمن هذا الكيان هو خطُ أحمر أمريكي، فإن الواقع الجديد للمنطقة، وخسارة أمريكا لرهاناتها، فرض عليها التوقف عند قوة إيران النووية وعقلانيتها. ولا شك أن العقل الأمريكي يدرك تماماً الحاجة للعقلانية الإيرانية في هذه الظروف الصعبة بالتحديد، في ظل واقع من الإرهاب الذي لم يعد بالإمكان السيطرة عليه، وفي ظل جنون دول الخليج الفارسي البعيد عن المنطق السياسي .
وهنا تجدر الإشارة الى أن الكيان الإسرائيلي يدرك الى جانب أمريكا هذه الحقائق. فالقلق الذي يعيشه الكيان الإسرائيلي من أزمة الوجود المستمرة، لا شك أنها زادت في ظل الحديث عن إيران نووية. لكن جلوس الطرف الأمريكي مع إيران، جاء كإعلانٍ أمريكي صريحٍ ولكل الأطراف، وبالتحديد دول الخليج الفارسي والكيان الإسرائيلي، عن أن اللاعب الإيراني في المنطقة، أصبح اليوم بحد ذاته واقعاً مفروضاً على الجميع ويجب احترامه. وهنا كانت ردة الفعل الإسرائيلية الهستيرية التي ترجمها نتنياهو، حين خرج عن إطار المألوف في التعاطي مع أمريكا. فأدخل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في مشاكل تخطت حتى حدود اللياقات الدبلوماسية، مما عبر عن حجم الارتباك الإسرائيلي .
ومن ينظر اليوم الى المشهد السياسي الحاصل في المنطقة، وبالتحديد العدوان السعودي على اليمن، يجد ما يعبر وبواقعية، عن فقدان الكيان الإسرائيلي لقدرته التي كان يتمتع بها في المنطقة. وذلك لأن الحرب السعودية هي ترجمةٌ فعلية للرغبة الإسرائيلية. فالكيان الذي كان يتمتع بقوة اللعب مباشرةً وبكل وقاحة، لم يعد يستطيع النزول الى الملعب السياسي. فكان نزول السعودية التي يتضح اليوم أنها تمثل الكيان الإسرائيلي في اللعبة السياسية. ولذلك تتطابق الحركة السعودية في العدوان، مع مثيلتها الإسرائيلة أسلوباً وأهدافاً. ولعل التعبير عن الإفلاس الإسرائيلي، يتجلى في أكثر من مكان. وهو ما يمكن تبريره بالحالة التي يعيشها منذ فترةٍ ليست بقصيرة، بدأت في الآونة الأخيرة عند خسارة الحرب في سوريا. والتي كان لإيران الدور الأكبر فيها، والذي أدى الى بقاء الرئيس الأسد في الحكم .
يعاني الكيان الإسرائيلي اليوم، من قلقٍ يتمثل في تراجع نفوذه. فعلى الرغم من وجود الكثير من الأطراف التي ترضخ دوماً وتستمع لتعليماته، إلا أن المشكلة التي يعاني منها هذا الكيان اليوم، تكمن في أن هذه الأطراف التي كانت دائماً اليد الإسرائيلية في المنطقة، لم تعد تستطيع التأثير. فدول الخليج الفارسي ودولٌ عربيةٌ أخرى، كانت رهينة السياسة الإسرائيلية، في وقتٍ كانت فيه أيضاً، صاحبة نفوذٍ وقدرة. أما اليوم فتجد هذه الدول نفسها مشلولةً بعد خسارتها رهاناتها المتعددة، والتي كانت أشبه بمقامرةٍ على كل شيء، خسرت في النهاية .
قد لا تتضح الصورة المستقبلية المعقدة للمنطقة، إلا بعد جلاء الغبار الذي يسود المشهد السياسي. لكن الأيام المقبلة ستجعلنا نشهد صورةً جديدة، يغيب عنها لاعبون عهدنا حضورهم. وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي الذي يتخبط اليوم، في صراع جديد يمكن تسميته صراع القدرة. مما جعل الهم الصهيوني يزداد، من صراع الوجود المقلق الى صراع القدرة القاهر. فإيران التي أوجدت في المنطقة، ما يمكن تسميته بواقع سياسي جديد، فرضت على الجميع قواعد جديدة قد يحتاج الكثيرون لوقت كبير لفهمها. وهنا سيدخل الجميع في صراع الوقت الثمين. فلعبة عدِّ الأصابع الإيرانية ستكون أسرع من غيرها. وبهذه الطريقة ستكون اللعبة مختلفةً هذه المرة. حيث ستحدد إيران الملعب، وستوزع إيران الأدوار، وستكون هي الحكم في مطلق الأحوال. وما على الجميع الآن، إلا أن يستعد ليضع نفسه تحت الرحمة الإيرانية .
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق