تركيا.. تجارت الحروب والمواقف السياسية
لم يكن الموقف التركي أزاء عاصفة الفشل أو العدوان السعودي ـ الأميركي على اليمن صادما لأحد من معارضين او مؤيدين على حدّ سواء، لأن الجميع يدرك براغماتية المواقف التركية وتقلباتها السياسية خاصة في العهد الأردوغاني .
على عكس الموقف الباكستاني الذي شكل صدمة كبيرة للبلدان الخليجية وخاصة السعودية والذي احتاج تبريره الى مناقشة برلمانية عجز عن فهمها الخليجيون الذين “قد” لا يعرفون معنى البرلمان لأنهم لم يجربوه منذ آخر أجتماع “شورى” عقد في سنة ٢٣ هجرية !
أجل، الموقف التركي لم يكن غريبا وهو ينطلق من أسس الاستراتيجية التركية التي جعلت من الاقتصاد المحرك الرئيس لمواقفها السياسية وتحالفاتها الاقليمية، وكأحد الركائز الثلاث التي تقوم عليها استراتيجية العدالة والتنمية، الى جانب ما يعرف بالتحول الديمقراطي وتصدير الحلول، حسب باحثين في مؤسسة كارنيغي للشرق الأوسط .
وتركيا التي استغلت الفراغ القيادي العربي وفقدان الأخيرين لقيادة كاريزمية تحقق طموحاتهم القومية وتعيد كرامتهم المهدورة على مذبح كامب ديفيد والمبادرة العربية، وقبل ان تسقط خدعة بطولات اردوغان في مواجهة الصهاينة، تريد حكومة أردوغان العودة الى الشرق الاوسط ثانية بعد تعثر مشروعها وطموحاتها الاقليمية جراء صمود سوريا بوجه العدوان والانقلاب العسكري الذي اطاح بحليفها الاخواني في مصر، وبسبب مخاوفها من التداعيات السياسية لتوقيع الاتفاق النووي بين ايران وأمريكا، أختارت مشروع التحالف الطائفي الذي دعت اليه السعودية الى جانب بعض بلدان المنطقة، لكن فشل العدوان السعودي على اليمن وعدم تحقيقه اهدافه بعد ان تصوروا حسم المعركة خلال ايام معدودة هو الذي جعل حلفاء السعودية يعيدون حساباتهم ويتحولوا الى وسطاء سلميين بعد ان كانوا حتى الامس القريب دعاة حرب طائفية .
لذلك اتصور ان الموقف التركي الجديد وسياسة الابتعاد عن المحاور وحديث انقرة عن وساطة لحلحلة الازمة اليمنية بعيد زيارة أردوغان الى طهران ورغم الزيارة المستعجلة التي قام بها محمد بن نايف ولي ولي العهد السعودي الى تركيا قبيل زيارة أردوغان الى طهران والتي تأرجحت بين أثنتين وساطة أقليمية ورسالة حلّ الى القيادة الايرانية ـ طبعا من وجهة نظر سعودية ـ أو محفزات سعودية لتخريب العلاقات التركية الايرانية، وان كنت أميل الى الاولى ولا أنفي بالعرض الثانية.. يقوم على الاسباب وللاهداف التالية :
١- بعد سياسة تصفير الازمات (صفر المشاكل) أو ما عرف بمبدأ وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو التي جاء بها نظام العدالة والتنمية في تركيا وتحول تركيا الى صديق لمحيطها الاقليمي بعد ان بقيت عدوة على مدى عقود من الزمن، عادت تركيا اليوم وبسبب سياسة المحاور التي اتبعتها والارتماء بحضن المحور المعادي للمقاومة الى محيط غير آمن سياسيا، ما يشكل تهديدا لمشروعها داخل تركيا وفي المنطقة .
٢- الفشل الذي منيت به تركيا في كل من سوريا وليبيا ومصر والعراق مؤخرا من خلال دورها في دعم تنظيم “داعش” الارهابي، وسقوط خياراتها في هذه البلدان، شكل انتكاسة لدورها الاقليمي الذي عملت على التخطيط له فترة من الزمن، وحول نظرتها عن المنطقة واعادها لفترة وجيزة نحو أوروبا التي تعتبرها الاتاتوركية فضاءها الحيوي، لكن حاجتها لدور اقليمي تتفاوض به مع الغربيين فرض عليها العودة الى الشرق .
٣- تدهور الاقتصاد التركي وتدني قوة عملتها الوطنية بمقدار ٢٠% بسبب دورها السلبي في الحالتين العراقية والسورية وانخفاض معدلات التنمية في الاقليم بشكل عام بسبب التوتر والتصعيد العسكري، اضافة الى تداعيات انخفاض سعر برميل النفط بشكل غير مباشر عليها، رغم كل ما حصلت عليه من نفط مهرب باسعار زهيدة من العراق وتركيا وما وصلها من الدعم الغربي والخليجي مقابل أمدادها الارهابيين في جارتيها الجنوبيتين .
٤- اتباع النموذج الأمريكي في تشغيل شركات الاعمار والبحث عن اسواق اقليمية، والذي يتطلب خراب ودمار في البلد المستهدف لتحويله الى سوق ومشروع تنمية سواء بمصادر تمويل ذاتي، كما في النموذج العراقي والليبي او بمساعدات دولية وهو ما تتوقعه تركيا في سيناريوهات غزة واليمن وسوريا !
وفي هذا الصدد يمكن الاشارة الى حجم الشركات التركية التي دخلت السوق العراقية بعد ٢٠٠٣ والتي تحول الاحتلال الداعشي للمناطق الغربية في العراق وما تبعه من مجهود حربي ترافق مع تدني اسعار النفط، الى سبب لتدني نشاط تلك الشركات .
وهو ما تأمل في القيام به من خلال: أولاً، انضمامها الشكلي للتحالف السعودي ضد اليمن، وبالتالي فأن أية صيغة حلّ تميل الى السعودية ستكون لصالحها، ثانياً، علاقتها الاخوانية بالتجمع اليمني للأصلاح وبالتالي هي تملك رصيد سياسي داخلي يمكن استغلاله، الابقاء على علاقة مع ايران التي تعتبر الداعم الاقليمي لانصارالله .
وبالتالي هي تتحرك على شتى الأصعدة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية المستقبلية .
٥- ثبات علاقاتها الاقتصادية مع ايران والتي يصل حجم التبادل بينهما حاليا الى ٣٠ مليار دولار وامكانية رفع ذلك الى اضعاف ما هو عليه بعد رفع العقوبات عن طهران، واعتماد تركيا على الطاقة الايرانية بنسب عالية (نفط ٢٨% وغاز ١٩% وكهرباء ٢٣ %).
٦- ضبابية المشروع الطائفي السعودي ومخاطره على دول ذات مكونات مذهبية متعددة مثل تركيا (وباكستان)، حيث فيها نسبة عالية من العلويين واقلية اثنا عشرية ومجموعات قومية مختلفة .
٧- رغم المصالح المادية التي تجنيها تركيا من مواقفها مع البلدان الخليجية الا ان هناك نزاع غير معلن داخل المنظومة “السنية” بين الاسلام التركي والاسلام السعودي الوهابي، خاصة بعد الاصطفاف التركي الى جانب الاخوان المسلمين والذي تعتبره بعض البلدان الخليجية تهديدا لانظمة حكمها .
ويبقى العامل الاقتصادي هو المحرك الرئيس في العقيدة الاستراتيجية التركية، فالنهوض الاقتصادي وتصدير النماذج السياسية الناجحة، يحتاج الى بيئة مستقرة وآمنة بعيدة عن الحرب والصراعات، وهو ما تطمح اليه تركيا بعد ان لمست مباشرة فشل سياسة العداوات التي اتخذتها منذ انطلاقة ما سمي بربيع العرب والذي اتى حاليا على نصف بلدانهم !
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق