کیف أدخلت أمریکا نفسها وعبر سیاستها فی الشرق الأوسط فی أزمة صراع الوجود؟
من يسمع خطاب الطرف الأمريكي، يظن أن أمريكا تعيش وتسهر في خدمة شعوب العالم لا سيما منطقة الشرق الأوسط. لكن الحقائق السياسية التي دخلت مؤخراً التاريخ السياسي، تثبت مدى بناء أمريكا لمصالحها الخاصة، من خلال استخدام الأنظمة. ولعل تراجع الهيبة الأمريكية ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط، يعود لسبب أن السياسة الأمريكية أصبحت تخسر أدواتها التي دخلت نفسها في أزمة صراع الوجود. وتأتي الدول العربية وبالتحديد الخليجية منها، في مقدمة هذه البلدان. وقد تكون الأزمة السورية بداية نكسة السياسة الأمريكية، ليلحقها بعد ذلك خسارة أمريكا في العراق بسبب سياسة التحالف الدولي الفاشلة. كما أن دولاً أخرى كأفغانستان وليبيا ولبنان، تعد مثالاً حياً لتراجع النفوذ الأمريكي. فماذا في المراجعة التحليلية لتاريخ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ وما هو تقييمها؟
أولاً: مراجعة تحليلية تاريخية موجزة، لمبدأ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط
إن الأحداث الجارية في المنطقة نقلت الصراع من صراع الدول، الى مرحلة انتقالية تعتمد على قوةٍ متصاعدةٍ للجماعات التكفيرية المتطرفة، المتفقة في الإرهاب، والمختلفة فيما بينها على سياسة بسط النفوذ. ولا شك أن أمريكا لم تكن بعيدة عن تأسيس هذه الجماعات ودعمها، وكذلك العديد من الدول العربية وبالتحديد الخليجية. لكن أمريكا لم تظهر أبداً من قبل، دولةً مرتبكة ومشوشة مثل اليوم. فمن الواضح أن صراع الأولويات التي تغرق فيه واشنطن، هو الذي جعلها تدخل في صراعٍ داخليٍ، الى جانب محاولتها الإمساك بزمام الأمور في العالم لا سيما منطقة الشرق الأوسط.
فأولويات واشنطن في المنطقة ولا سيما في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بقيت كما هي، في سياسة أمريكا الإستراتيجية العامة. ويمكن تلخيصها بعناوين أربعة وهي: منع هجوم إرهابي على الأراضي الأمريكية، منع ايران من الحصول على سلاح نووي، الحفاظ على تدفق آمن للطاقة والتوسط في عملية السلام بين العرب والكيان الإسرائيلي. فهذه الأولويات هي في الحقيقة تعبير عن المصالح الإستراتيجية لواشنطن في الشرق الأوسط، والتي تقوم على المحافظة على ضمان بقاء الكيان الإسرائيلي وحماية تدفق إمدادات النفط والغاز إلى الأسواق العالمية وبالتالي الحفاظ على سلامة الاقتصاد الأمريكي والعالمي والتقليل من خطر الإرهاب المناهض لأمريكا والحد من انتشار الأسلحة النووية. كما يمكن إضافة الهدف الإستراتيجي المعنوي الدائم، والذي تقوم أمريكا على ترويجه دوماً، وهو تعزيز حقوق الإنسان وتقديم نفسها على أنها دولة الحريات وحمايتها. لكن ما يختلف من فترة لأخرى هو قيام واشنطن بتعديل وتكييف سياستها تجاه الشرق الأوسط، ضمن هذه الخطوط الحمراء.
ثانياً: كيف يمكن تقييم هذه السياسة
يشير أحد المحللين الأمريكيين ستيفن والت في تحليله للسياسة الأمريكية، الى أنه وعلى الرغم من انتهاج أمريكا لأساليب مختلفة تبعاً للظروف المتقلبة، لكن الأهداف الإستراتيجية ثابتة. وهو ما يشار اليه بالخطوط الحمراء، والتي سبق أن ذكرناها. وهذا الأمر ليس بجديد على السياسة الأمريكية المعروفة ببراغماتيتها. لكن المحلل والت أضاف أنه: “كان من الواضح أن هنالك تفضيلاً للحقائق الإستراتيجية على التطلعات الأخلاقية، كما يتضح مثلاً من تسامح أمریکا مع الأنظمة الاستبدادية أو دعم الکیان الإسرائيلي الذي یقوم باحتلال الضفة الغربية وقمع حقوق الفلسطينيين بشكل متزايد على خلاف مع القيم الأمريكية الأساسية”.
ويضيف: “إن أفضل وسيلة لتحقيق الأهداف الأمريكية، كانت باتباع سياسة توازن القوى السياسية التي اعتمدتها أمریکا بين ١٩٤٥ إلى ١٩٩٠ عبر تقسيم المنطقة إلى دويلات مشتتة لها علاقات أمنية وثيقة ومصالح مع واشنطن” .وهنا يأتي الحديث عن سياسات أمريكا في المنطقة، والتي مارستها بحق الدول، لا سيما سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا، والتي يمكن تحليلها زمنياً على الشكل التالي:
إعتمدت واشنطن لفرض هيمنتها ومنذ ١٩٤٥ سياسة التعامل غير المباشر، من خلال الاعتماد على أطراف محلية، بحيث بقيت القوات العسكرية خارج المنطقة، ولكن مستعدة للحظات تدخل قصيرة ونادرة. وبقي ذلك حتى عام ١٩٩١ عندما ابتعدت واشنطن عن هذه الإستراتيجية وبدأت في اعتماد استراتيجية “الاحتواء المزدوج”، وبالتحديد تجاه إيران والعراق. لكن هذه السياسة تطلبت وجوداً عسكرياً كبيراً لها، فاختارت أمريكا السعودية لذلك.
في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش، بدأت أمريكا اعتماد سياسة “التحول الإقليمي” والتي أدت إلى هزيمة كارثية لها في العراق. لكنها ساهمت في ظهور آثار سلبية أخرى من أهمها تأجيج الإرهاب المناهض لأمريكا.
في عهد الرئيس أوباما، كانت العودة إلى الإستراتيجية السابقة، وكانت إدارة أوباما أصرت على أن العودة لسياسة التوازن من الخارج لا تعني ان واشنطن لا تبــالي بالمنــطــقة ولكــنها تريد الدفاع عن مصالحها بطريقة أكثر ذكاء وأكثر فاعلية من حيث التكلفة.
وخلال مرحلة ما سمي بالربيع العربي، أشعلت المنافسة الإقليمية في المنطقة، والتي تحولت إلى ساحة للحرب الباردة، بحيث بدأت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في صراع يتجاوز الانقسامات الطائفية، وينطوي على استخدام الأدوات التقليدية مثل المساعدات العسكرية والاقتصادية فضلاً عن ظهور أشكال جديدة من عمليات استعراض القوة بما في ذلك الاستثمارات المباشرة في وسائل الإعلام.
لكن ظهور الحركات الإسلامية كأمر أساسي في الصراع الإقليمي، جعل الأمور تأخذ منحاً آخر. فإزالة جماعة الإخوان المسلمين من الحكم في مصر كان الحدث المركزي وراء المنحى الجديد. ثم جاءت الجماعات المتطرفة التي فرضت فتوحات سياسية جديدة، تحت عنوان الإسلام، لكنها كانت صهيونية بامتياز. ولعل هذه الجماعات، فشلت في سوريا والعراق وأفغانستان بالتحديد.
هذا الأمر بحد ذاته رفع من حدة المنافسة بين الجماعات المسلحة في ليبيا وأسهم أيضاً في ظهور جماعات إسلامية سياسية أخرى وخاصة في مصر وتونس. وهو ما عكس حال الوضع المتردي لدول الخليج الفارسي، وتتدهور السياسة الأمريكية وقدرتها على ضبط أدواتها في المنطقة.
إن نهج أمريكا حاضراً، يفتقر إلى الذكاء. فمحاولة واشنطن إشراك مراكز متعددة السلطة في المنطقة سياسياً واقتصادياً في الإستراتيجيات التي تؤكد على التعددية والازدهار، يناقض انخراط أمريكا بدعم المنظمات السياسية، الإسلامية الظاهر والصهيونية المضمون. وهو في الحقيقة يترجم حالة الصراع الداخلي الأمريكي بين الديمقراطيين والجمهوريين وعدم وجود رؤية سياسية موحدة، الأمر الذي يهدد وجود أمريكا اليوم. وعلى الأمريكيين أن يعرفوا أن بقاءهم يعتمد على الداخل الأمريكي وليس على الخارج الذي لم تتأثر به أمريكا يوماً. فهل دخلت أمريكا أزمة صراع الوجود؟
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق