التغلغل السعودي في آسيا الوسطي والقوقاز: تاريخه والأبعاد وما يترتب عليه من نتائج
في الفترة المعاصرة، يعود تاريخ حضور السعودية في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز إلى السنوات الأخيرة من الحياة السياسية للاتحاد السوفياتي وما تلاها من انهيار هذه القوة العظمى في الشرق، وفي النتيجة استقلال الجمهوريات المنفصلة عن هذه القوة العظمى المنهارة في هذه المنطقة. وربما يمكن اعتبار هجوم الجيش الأحمر علي أفغانستان واحتلال هذا البلد من قبل الاتحاد السوفياتي في بداية الثمانينات من القرن العشرين، نقطة تحول وبداية لحضور السعودية في جمهوريات آسيا الوسطي.
انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان في وقت متأخر من فترة غورباتشوف، أتاح عهداً جديداً في العلاقات بين موسكو والرياض، ولكن بالنظر إلى أن هذه الفترة لم تدم طويلاً ووقع الانهيار السوفياتي، شهدت التطورات والأحداث السياسية والدولية مساراً جديداً.
انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية فصل جديد لحضور السعودية في آسيا الوسطى والقوقاز
حضور السعودية في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز مثل بعض دول المنطقة كتركيا، لم يحدث سريعاً، وقد تم فتح سفارات هذا البلد الملكي في معظم الجمهوريات التي نتحدث عنها، بعد سنوات من إعلان استقلال هذه الدول والاعتراف بها في الأمم المتحدة.
الأسباب السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية لاهتمام السعوديين المتزايد بهذه المنطقة
ينظر السعوديون إلي جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز في الدرجة الأولى من الناحية السياسية والأيديولوجية، وأولوياتهم في هذا المجال هي متابعة وتنفيذ استراتيجيتين أساسيتين هما أولاً ترويج وتوسيع الفكر الوهابي والسلفي المنحرف في آسيا الوسطى والمناطق التي يقطنها المسلمون في القوقاز. والثاني التصدي لخطاب ورسالة الثورة والجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتبارها حاملة لواء التفسير الحقيقي والأصيل للإسلام وهو الإسلام المحمدي الحنيف(ص) حسب تعبير مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني (رحمه الله).
ومن أجل تحقيق الاستراتيجية الأولي سعى السعوديون بعد الحضور في المنطقة، إلي الاستفادة من الأرضيات الموجودة بين الشعوب المسلمة في جمهوريات آسيا الوسطى الخمس والوصول إلي أهدافهم الدينية – المذهبية والأيديولوجية. وتعتبر هذه الأرضيات في الواقع من عوامل النمو النسبي للسلفية والوهابية في هذه المنطقة، والتي ستتم مناقشتها في المحاور التالية:
الفراغ الديني بين شعوب هذه المنطقة
حظر الدين في الاتحاد السوفياتي وفرض الإلحاد على الشعوب المسلمة في هذه المنطقة، أدي إلي انقطاع بين الناس المنحدرين إلي أصول إسلامية في هذه المنطقة مع الإسلام والتعاليم الإسلامية وابتعادهم عنها. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال هذه الجمهوريات، اعتمدت الشعوب نهج العودة إلي هويتها التاريخية والثقافية. وفي مثل هذه الأجواء استغل السعوديون الوهابيون الفرصة المتاحة وعرضوا للناس صورة من الإسلام الذي يريدونها والقائم علي الرؤية الوهابية. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن جماعات من الشعوب الإسلامية في هذه المنطقة والتي تتوق إلي العودة إلى الهوية الإسلامية، تميل إلي السعوديين بعد رؤية إسلامهم ظناً منهم أن هذا الإسلام هو الإسلام الحقيقي، دون أن يعلموا أن هذا الإسلام ليس الإسلام الأصيل بل يهدف إلي تحقيق المصالح الغربية والعربية والعرقية.
استبدال العلمانية بالإلحاد
رفض الحكام الجدد في جمهوريات آسيا الوسطى قبول الإسلام كدين رسمي. وأدى ذلك إلى أن الحكومات الإقليمية تغمض عينيها علي ديانة الناس وتفتح الطريق أمام السعوديين لتقديم التفسير الخاطئ عن الإسلام إلي هذه الشعوب المسلمة. وفي هذه الاثناء، عدم إتاحة المجال للنزعة الإسلامية المحلية والقائمة علي الهوية التاريخية والثقافية للمنطقة نفسها من قبل الحكومات الجديدة، قد زاد المشكلة تفاقماً. وهذا هو السبب في أنه خلال العقدين الماضيين انجذب عدد كبير من المهتمين بدراسة العلوم الدينية في جمهوريات آسيا الوسطى إلي المعاهد الدينية في السعودية أو الدول العربية التي تتماشى مع هذا البلد، وبعد اجتياز السنوات الأكاديمية عادوا إلي المنطقة وأصبحوا أدوات للدعاية والترويج للعقيدة الوهابية.
ينشط السعوديون في مجال الاقتصاد والتجارة في جمهوريات آسيا الوسطى أيضاً، متخذين من ذلك أداة للدعاية والترويج للوهابية. والفقر المتفشي بين فئات عديدة من هذه الشعوب قد زاد الأمر سوءاً، وقدّم للسعوديين ذريعة للقيام بذلك.
أهداف جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز من إقامة وتطوير العلاقات مع السعوديين
هنالك مقاربة سياسية لدي هذه الجمهوريات في العلاقة مع السعودية، تتمثل في الاستمرار في العيش بشكل مستقل إلي جانب أهداف اقتصادية، حيث تعاني بعض هذه الجمهوريات مثل قيرغيزستان وطاجيكستان من بنية تحتية اقتصادية فقيرة وضعيفة، والسعودية شريكة اقتصادية جيدة لها.
نظرة الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة إلي تزايد الوجود السعودي في آسيا الوسطى والقوقاز
بالنسبة للغرب تشكل السعودية في هذه المنطقة عامل ردع لروسيا وإيران. وتغذية التطرف الديني في هذه المنطقة من قبل السعوديين ونشر الوهابية بين شعوبها المسلمة، سيضيق الخناق علي وجود ونشاط جمهورية إيران الإسلامية وروسيا، وهذا الأمر مطلوب جداً لأمريكا والغرب.
وفيما يتعلق بتركيا، فإنها إلي جانب السعودية ستعمل علي الاحتواء والسيطرة على إيران وروسيا في هذه المنطقة بمباركة أمريكية غربية، بل بأوامر منهم.
وفيما يتعلق بالصين، فالبعد التجاري والاقتصادي ليس ذا أهمية كبيرة، بل إن تصاعد التطرف الديني نظراً لحدود الصين المتاخمة مع آسيا الوسطى ووجود الملايين من المواطنين المسلمين الصينيين في بعض أجزاء من هذا البلد مثل شينجيانغ، يمكن أن يشكل عامل قلق وإزعاج للسلطات في بكين.
آفاق العلاقات بين الرياض وآسيا الوسطى والقوقاز
اليوم، يشكل التطرف الديني تهديداً خطيراً لآسيا الوسطى والقوقاز، وبما أن هذا التيار الخطير يعود بالصلات الوشيجة الواضحة إلي الوهابية السعودية، فإنه من الطبيعي أن حكومات جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز ستضع في علاقاتها مع الرياض، نوعاً من الرقابة والقيود الإضافية للسعوديين لممارسة برامجهم وأنشطتهم علي مستوى هذه الجمهوريات. ولا ينبغي لنا أن ننسى أنه في الوقت الحاضر، من كل جمهورية من جمهوريات آسيا الوسطى، جمهورية أذربيجان وجمهوريات الحكم الذاتي في شمال القوقاز، هنالك المئات (وفي المجموع الآلاف) من الذين يقاتلون في سوريا والعراق تحت إمرة المجموعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة بما فيها “داعش”، وإذا لزم الأمر فإن هؤلاء سيتدفّقون إلي جمهورياتهم ويوسّعون النظاق الجغرافي للأزمة في المنطقة.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق