التحديث الاخير بتاريخ|الجمعة, نوفمبر 15, 2024

تركيا استثناء في استراتيجية “داعش” 

عبدالله سليمان علي /

بالرغم من أن العلاقة بين تركيا و «داعش» مرّت ببعض المحطات التصعيدية التي شهدنا فيها قيام طائرات تركية، مرتين، بقصف أهداف تابعة إلى التنظيم المتشدد داخل الأراضي السورية أثناء الاقتتال في إعزاز في شمال حلب أو بلدة الراعي القريبة، إلا أن هذه المحطات التصعيدية كانت من الندرة بحيث لم تستطع أن تحجب حالة «المهادنة» التي طغت على العلاقة بينهما طوال السنوات الماضية.

 

لم يكن مستغرباً، على الإطلاق، ألاّ يرد ذكر تركيا أو حكومتها في خطاب زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي، الذي صدر الأسبوع الماضي، تحت عنوان «إنفروا خفافاً أو ثقالاً». فقد حرص خطاب قيادة التنظيم المتشدد منذ البداية على تجاهل تركيا، وعدم التطرق إليها من قريب أو بعيد في جميع أدبياته وخطاباته الرسمية والإعلامية.

ولا يقتصر هذا التجاهل على صعيد الخطاب وحسب، فعلى أرض الواقع تعتبر تركيا الدولة الوحيدة المرتبطة بحدود مشتركة مع الأراضي التي يسيطر عليها «داعش»، ولم يشملها تهديد «التمدد» إليها، ما من شأنه أن يطرح العديد من التساؤلات عن حقيقة موقع تركيا في الإستراتيجية المتبعة من قبل «داعش»، وعما إذا كانت تمثل استثناءً عن بقية دول المنطقة التي أصابتها تهديدات التنظيم المتشدد بطريقة أو بأخرى.

وبدا جلياً أن السلطات التركية لا ترغب في الانخراط بقتال «داعش» على شكل واسع، وهو ما عكسه بوضوح عدم حماستها للمشاركة في التحالف الدولي الذي تأسس في أيلول من العام الماضي. وتكرّس ذلك مع بدء معركة عين العرب (كوباني) وإصرار الحكومة التركية على عدم تسهيل مهمة المدافعين عن المدينة. ولا يغير من الأمر شيئاً بعض الإجراءات التي اتخذتها أنقرة بعد ذلك، نتيجة ضغوط دولية كبيرة اضطرتها إلى فتح معبرها الحدودي للسماح بدخول بضعة عشرات من مقاتلي البشمركة للوقوف إلى جانب «وحدات حماية الشعب» الكردية في دفاعهم عن المدينة المنكوبة. بل على العكس فإن ممارسة ضغوط دولية على أنقرة للقيام بمثل هذه الإجراءات يشير إلى أن الأصل هو عدم وجود رغبة تركية باتخاذها، وأن الأمر مرتبط بالإذعان إلى الضغوط وليس بالموقف من «داعش».

في المقابل، كان الصمت الذي يلوذ به تنظيم «داعش» تجاه تركيا، وحرصه على عدم ذكرها في كل خطاباته الرسمية الصادرة عن كبار قادته، خير دليل على أن عدم الرغبة في استعداء الطرف الآخر، أو الانخراط معه في قتال واسع، كان يشكل قاسماً مشتركاً بين الطرفين. وما يثير الاهتمام فعلاً هو أن التنظيم المتشدد، الذي يتخذ من «التمدد» شعاراً له، لم يصدر عنه ما يشير إلى وجود خطة لديه تقضي بإمكانية التمدد في الأراضي التركية، برغم أنه على تماس معها في أكثر من منطقة حدودية سورية، مثل جرابلس في حلب وتل أبيض في الرقة. كذلك، فإن التنظيم الذي يتباهى بأي بيعة يحصل عليها من أي بقعة من بقاع الأرض، ويسارع إلى نشرها على نطاق واسع، لم يسبق له أن أعلن عن حصوله على أي بيعة من «جهاديين أتراك»، برغم أن أعداد هؤلاء في التنظيم تقدر بالمئات وبعضهم يشغل مناصب قيادية. بالإضافة إلى أن التنظيم الذي اعتاد على نشر إصدارات بلغات مختلفة لتهديد حكومات غربية وعربية يتولى الحديث فيها عادةً «جهاديون» من جنسية الدولة المستهدَفة، لم ينشر أي إصدار باللغة التركية حتى الآن.

وقد يشكّل الطابع السري والغامض الذي تتصف به العلاقة بين «داعش» من جهة وبين الاستخبارات التركية من جهة ثانية، عائقاً كبيراً يحول دون الوصول إلى جواب شافٍ عن سبب هذا الاستثناء الذي تحظى به تركيا في إستراتيجية التنظيم، ويبعدها بالتالي عن خطر تهديداته الذي قلما نجت منه دولة من دول المنطقة. وقد تمخض عن هذه السرية البالغة تمكن أنقرة من إنجاز صفقات نادرة مع التنظيم المتشدد، سواء في ما يتعلق بإطلاق سراح دبلوماسييها الذين اختطفوا في الموصل منتصف العام الماضي مقابل إطلاق تركيا بعض «الجهاديين» المعتقلين في سجونها، أو في ما يتعلق بقضية ضريح سليمان شاه الذي يمثل دليلاً إضافياً على حالة الاستثناء التركية لأنه الضريح الوحيد الذي نجا من تدمير «داعش».

وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن علاقة الاستخبارات التركية مع «داعش» تتخذ عدة مستويات، تبدأ بالتعاون أو تقديم تسهيلات أو تعمّد غض الطرف عن نشاطاته، مروراً بالاختراق بهدف توجيه تحركاته وانتهاءً بالإعداد لمرحلة التصادم.

ويتجلى المستوى الأول في سياسة فتح الحدود التي تتبعها الاستخبارات التركية أمام قوافل «الجهاديين» للسماح لهم بالدخول إلى الأراضي السورية، من دون اهتمام بالفصيل المسلح الذي يمكن أن ينضموا إليه. ولا شك أن «داعش» كان من أكثر المستفيدين من هذه السياسة، بحكم أن غالبية المقاتلين الأجانب يفضلون الانضمام إليه، ومع ذلك لم يشكل ذلك رادعاً للسلطات التركية كي تعيد النظر في هذه السياسة، برغم أنه مصنف من قبل مجلس الأمن الدولي على أنه تنظيم إرهابي، كما اتخذ قرار بالإجماع بوجوب قطع التمويل والإمداد عنه.

أما المستوى الثاني المتمثل بالاختراق، فالدليل عليه الحادثة المشهورة التي وقعت في العام 2013، وتتعلق باختراق الاستخبارات التركية للتنظيم عبر أبو مصعب الجزائري، الذي كان أحد معاوني القائد العسكري عمر الشيشاني، حيث ألقى الجهاز الأمني في «داعش» القبض على الجزائري بعد خروجه من اجتماع مع عدد من الضباط الأتراك، ووجه إليه اتهاماً بالتجسس على التنظيم لمصلحة الاستخبارات التركية، فما كان من هذه الأخيرة إلا أن انتهزت أول فرصة وسارعت إلى اعتقال السعودي راكان الرميحي الذي كان يشغل منصب «أمير شرعي»، كما كان هو من تولى التحقيق مع الجزائري، قبل أن يصدر بياناً علنياً تحدث فيه حول وقائع الاختراق، الأمر الذي اعتبرته الاستخبارات التركية في ما يبدو تجاوزاً للخطوط الحمراء استوجب اعتقاله. وفي هذه الحادثة أيضاً فإن الاستثناء التركي يبدو واضحاً بشدة، لأن «داعش» وعلى خلاف عادته في قتل جميع من ثبت أنهم يتجسسون عليه لمصلحة أجهزة الاستخبارات، أطلق سراح الجزائري، وقام بترحيله إلى تركيا، لتغيب أخباره بعد ذلك وهي معاملة لم يحظ بها غيره من قبله أو بعده.

ولا شك أن سعي الاستخبارات التركية إلى اختراق التنظيم، والذي لا تشكل حادثة الجزائري سوى مثال بسيط عليه، يعتبر مؤشراً مهماً على أن الاستخبارات التركية تدرك في قرارة نفسها أنه لا يمكن الوثوق بالتنظيم، وأنه قد يشكل في مرحلة ما خطراً على أمن بلادها، وهذا ما دفعها إلى الاحتراز ومحاولة الإعداد لمرحلة التصادم معه في حال كان لا بد من ذلك، سواء بسبب تجاوز «داعش» الخطوط الحمراء التركية المتعلقة بأمنها واستقرارها، أو بسبب الضغوط الدولية التي بدأت تتكثف على تركيا منذ حادثة «شارلي إيبدو» في فرنسا وافتضاح أن زوجة الإرهابي حمدي كوليبالي، حياة بومدين عبرت الحدود التركية إلى سوريا.

ويعزز من ذلك أن كواليس «داعش» بدورها تضجّ بأحاديث غير معلنة عن تكفير الحكومة التركية، ووصفها بالطاغوت كغيرها من الحكومات التي تبنى على أساس غير إسلامي، وأنه لا يمكن الوثوق بها، وهو كلام واضح بأن الحكومة التركية ينطبق عليها التوصيف الشرعي نفسه للحكومات الأخرى، التي أعلن «داعش» العداء لها. ولكن يبقى السؤال لماذا لم يؤد ذلك إلى معاملتها كمعاملة تلك الحكومات؟.

في هذا السياق كان لافتاً أن بعض الإعلاميين المقربين من التنظيم اضطروا لتبرير هذا الوضع الخاص الذي تتمتع به الحكومة التركية لدى «داعش» إلى القول مرات عدة إن «سياسة الدولة الإسلامية تقوم على تحييد تركيا نظراً إلى عدم وجود مصلحة في فتح مواجهة حالية معها».

وبرغم أن هذا التبرير لا ينفي إمكانية حدوث المواجهة في وقت لاحق، إلا أنه يؤكد عدم وجود أسباب لحدوثها في هذه المرحلة، وهو ما يعني أن تركيا ستبقى على المدى المنظور استثناءً في إستراتيجية التنظيم، طالما أن «المصالح» التي تستلزم التقارب بين الطرفين أقوى من المصالح التي توجب فتح مواجهة بينهما.

 

 

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق