الحرب الناعمة في الإستراتيجية الأمريكية: تعريفها وأهميتها
محمد علي جعفر /
ظهر الى الواجهة مؤخراً الحديث عن مفهوم القوة الناعمة أو الحرب الناعمة، وبدا ذلك جلياً في خطابات القيادات السياسية في المنطقة، وفي العالم. ولعل القليل من الشعوب تعرف معنى هذا المفهوم، وعلاقته بالسياسة الخارجية الإستراتيجية لأمريكا والكيان الإسرائيلي. فماذا يعني هذا المصطلح؟ وكيف هدفت امريكا من خلاله للتأسيس لحرب جديدة تكون هي الأقوى خلالها؟
أولاً: الحرب الناعمة: التعريف والأهمية:
إن مصطلح “القوة الناعمة” هو مفهوم روجت له السياسة الإستراتيجية الأمريكية، ويعتبر المنظِّر لهذه القوة أساساً البروفيسور جوزيف ناي والذي كان يشغر منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي سابقاً، ومدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي، كما أنه عميد كلية الدراسات الحكومية في جامعة هارفارد ومستشار في مجال الأمن القومي. لذلك من هنا تأتي أهمية هذا المصطلح، والذي منه تم اشتقاق مفهوم الحرب الناعمة. فما هي الحرب الناعمة؟ وكيف تختلف عن الحرب النفسية؟
إن الحرب الناعمة هي الحرب التي هدفت أمريكا من خلالها، الى نقل المعركة من الميدان العسكري الصلب حيث التفوق للتكتيكات العسكرية ولعقيدة القتال والموت في سبيل القضية والصمود الطويل، الى الميدان الناعم الذي يعتمد على التكنولوجيا ووسائل الإتصال والتواصل والإعلام. وقد قررت الأدمغة الإستراتيجية الأمريكية ذلك، نتيجة دراساتٍ قاموا بها، كانت تحت إشراف البروفيسور جوزيف ناي، الذي سبق أن عرفناه، أفضت هذه الدراسات الى أن التفوق في الميدان العسكري سيكون لأعداء الصهيونية العالمية، أي عملياً لأعداء أمريكا وحلفائها. فيما أكدت الدراسات تلك أن تفوق أمريكا وحلفائها، هو في مجال الإعلام والتكنولوجيا. وهو الأمر الذي اقتضى أن تقوم هذه الأدمغة الإستراتيجية بنقل المعركة الى الميدان الثاني.
وللدلالة على أهمية الموضوع يجب التأكيد أن الكيان الإسرائيلي، وخبراء التخطيط الإستراتيجي فيه، توصلوا الى هذه الحقيقة أيضاً. فالمستشار في مجال الأمن القومي الإسرائيلي، ميخائيل ملشتاين، أكد مراراً أن تفوق كيانه، يحتاج الى حربٍ لا يكون الهدف فيها كسر القوة العسكرية لما يسمى المقاومة، بل يجب أن تكون المعركة في الميدان الفكري، ويكون الهدف ضرب الأفكار الموجودة في وعي جمهور المقاومة. ومن هنا تأتي بحسب رأيه، أهمية الدخول لهذه المجتمعات والشعوب المقاومة، عبر الإعلام والدين. وهو الأمر الذي يهدف لضرب بنية بيئة المقاومة. مما يصنع واقعاً على المدى الطويل يؤسس لمجتمعٍ فارغٍ من الفكر المقاوم، وإن حمل شعارات المقاومة.
وقد يسأل البعض عن العلاقة بين الحرب الناعمة والحرب النفسية. وهنا نقول التالي:
تهدف الحرب النفسية الى ضرب إرادة العدو وتدمير معنوياته بصورة مباشرة وعلنية وتستخدم الدعاية لذلك. بينما تسعى الحرب الناعمة أن تكون خفية وتستخدم الوسائل النفسية للإستمالة والجذب دون أن تترك أي بصمات.
إن الجهات التي تكون هدف الحرب الناعمة هي كل أفراد المجتمع أي الشعوب بأكملها وبالتالي فهي تستخدم تنفيذياً وسائل تمكنها من الوصول للجميع في أي وقت، بينما يكون هدف الحرب النفسية، تكتلات سياسية معينة ذات تنظيم دقيق كالجيوش وحكومات الدول أو التنظيمات المتماسكة. وتسعى الحرب النفسية للتأثير بالتحديد على القيادات الناجحة لتلك المنظومات.
ثانياً: حقائق الحرب الناعمة الأمريكية بالوثائق والمستندات:
أطلق مخططوا السياسة الإستراتيجية الأمريكية في عام ٢٠٠٨، معادلةً تجمع بين القوة العسكرية والقوة الناعمة. وكان اسم هذه المعادلة “Smart Power ” أي القوة الذكية. وجاء ذلك بعد الفشل الأمريكي في أفغانستان والعراق، حيث أوصى خبراء لجنة بيكر هاملتون، لتعديل الخطة التي تعتمد على القوة العسكرية فقط، وإضافة القوة الناعمة لها. وقد جاء ذلك، بعد دراساتٍ عميقة، لمراكز ومعاهد صنع القرار الأمريكي، تحت إشراف “Center of Strategic and International Studies (CSIS )” أي معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية، والذي خلص لضرورة دمج القوة العسكرية بالقوة الناعمة.
وقد تمت ترجمة هذا المشروع عملياً من خلال برنامجين أساسيين كان لرئيس قسم تخطيط السياسات في الإدارة الأمريكية ومدير قسم غوغل للأفكار، جارد كوهين “Gard Kohin ” الدور الأساسي في ابتكارها، وهذه البرامج هي:
البرنامج الأول: ” ٢١ st Century State Craft “، وهو البرنامج الأمريكي الهادف لصناعة الدول في القرن الحادي والعشرين، من خلال توظيف التكنولوجيا ووسائل الإعلام لضرب المجتمعات المعادية للسياسة الأمريكية، مما يساهم عبر استخدام ما يعرف بالميديا الذكية، لتشكيل طبقات وقوى سياسية ودينية في ساحة الخصم المعادي لأمريكا، يؤمن بالقيم والسياسات الأمريكية. وقد تم تشفير هذا المشروع من خلال الإطلاق عليه تسمية “ثورة الديمقراطيات” إعلامياً.
البرنامج الثاني: “Diverting the Radicalization Track “، ويعني “إعادة توجيه مضمار التطرف” أي القيام بالإتصال بالبيئات السياسية للجماعات والنظم المتطرفة والمعادية للسياسة الأمريكية وفتح قنوات اتصال معها عبر جهات ثالثة، غالباً ما تكون أمنية لها علاقة بالإستخبارات وتكون على هيئة مؤسسات مدنية أو اجتماعية. والهدف من ذلك السعي لتوجيه زخم هذه الجماعات وتحويل حراكها وإغرائها بإشراكها في اللعبة الديمقراطية بما يخدم المشروع الأمريكي.
إذاً يخلص المقال للقول، إن هذه الحرب الناعمة ولدت خلال المحطات المفصلية في السياسة الدولية الأمريكية، مما يشير الى أهميته. لكن السؤال الأهم والذي سنجيب عنه في الفصل المقبل هو: ما هي أشكال وتكتيكات الحرب الناعمة والتي استخدمتها أمريكا في استراتيجيتها السياسية؟
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق