الإستراتيجية الأمريكية الجديدة: بين صعوبة الواقعية الكلاسيكية والفشل في إدارة الصراعات
سعت واشنطن لإعتماد سياسةٍ جديدة بعد إدراكها فشلها في إدارة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وذلك كمحاولةٍ منها للعودة الى صدارة المشهد السياسي، خصوصاً بعد فشل رهاناتها في سوريا والعراق. ومن خلال أفعالها وتحركاتها السياسية منذ مطلع العام الحالي، إستخدمت أمريكا ما يسمى بسياسة الواقعية الكلاسيكية لإحداث التوازن السياسي، لعلها تُعيد لنفسها بعضاً من الدور الذي فقدته. فما هي هذه السياسة وكيف استخدمها البيت الأبيض كإستراتيجية جديدة؟ ولماذا تُعتبر محكومةً بالفشل؟
أولاً: الإستراتيجية الجديدة:
إن الواقعية الكلاسيكية الجديدة هي نظرية من نظريات العلاقات الدولية، تسعى أمريكا لترسيخها من خلال محاولة تطبيقها لإحداث ما يسمى بالتوازن الكلاسيكي في المنطقة، بعد فشلها في إدارة الصراع. وتَعتبر هذه النظرية أن تفاعلات الدولة في النظام الدولي يمكن تفسيرها من خلال إحداث متغيرات نظامية، كتوزيع مقومات القوة بين الدول، إلى جانب إحداث متغيرات معرفية، كالترويج للفهم الخاطئ للأمور. كما تعتمد على إحداث متغيرات محلية تتعلق بمؤسسات الدول المستهدفة والنخب والتي تؤثر على السلطة وحرية تصرف صناع القرار في السياسة الخارجية. وهو الأمر الذي تعمل أمريكا على تفعيله من خلال الدول الخليجية في المنطقة. فكيف يمكن توصيف ذلك عملياً؟
حاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما إستغلال حالة الشعور التي تنتاب الدول الخليجية ببداية سقوط كياناتها، نتيجة سقوط رهاناتها في المنطقة، لعله يساهم في إعادة ترتيب ما يعرف بالبيت الخليجي وتوحيد أهدافه، ليستطيع لعب الدور الفعال في ظل المتغيرات الجيواستراتيجية الجديدة في المنطقة. وهو الأمر الذي تبيَّن أنه نَتَج عن قمة كامب ديفيد الأخيرة.
فواشنطن سعت للتعويض عن فقد نفوذها الى جانب خسارة حلفائها رهاناتهم، عبر محاولة الدمج بين مصالحها ومصالح حلفائها في منطقة تعيش ظروفاً بالغة الحساسية والأهمية والتعقيد. ولعل النفاق السياسي الأمريكي، يتمثل في شعور أمريكا بأن توقيع الإتفاق النووي مع إيران حاجة مهمة لها، في ظل غياب طرفٍ قويٍ عارفٍ لقواعد الإشتباك السياسي والعسكري، يتصرف بحكمة ودراية. وفي نفس الوقت، يُدرك الأمريكي أن إيران لن ترضخ له ولن تكون مطواعةً على عكس الدول الخليجية التي يحكي تاريخها أنها لم تكن إلا أداةً بيد واشنطن. وهكذا يكون الأمريكي قد ساهم في إعادة بعضٍ من الثقة الخليجية به، ليكون مرجعيةً لهذه الدول في استراتيجيته الجديدة والهادفة الى إدارة نتائج الصراع، والذي أدرك أنه فشل في إدارة أصله. وهنا حاول الأمريكي المضي قدماً في إرضاء النظام السعودي عبر دعمه في حربه على اليمن، مراهناً على أن ذلك قد يجعله يمسك بورقةٍ جديدة مقابل إيران، فيكون قد كسب ود دول مجلس التعاون، الى جانب ظنه أنه سيضغط على الطرف الإيراني.
ولأن ملف الأزمة السورية يبقى متصلاً بالوضع الإقليمي بشكلٍ أساسي، جاءت ترجمة هذا التفاهم بتشكيل جيش الفتح وهو عبارة عن الميليشيا التي تضم إرهابيي السعودية وقطر وتركيا، ضمن إطار قياديٍ واحد، لتوحيد الجهود في الميدان. وهو الأمر الذي ساهم في إسقاط إدلب وجسر الشغور في سوريا. ليتزامن مع ذلك حربٌ نفسية تقودها وسائل إعلام السعودية وقطر، هدفت لضرب معنويات محور المقاومة، وإظهار أن الطرف الأمريكي وحلفاءه الخليجيين أعادوا الإمساك بزمام الأمور. لكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً.
ثانياً: لماذا تعتبر هذه السياسة محكومة بالفشل؟
يمكن القول إن فشل هذه السياسة عكسه فشل الرهانات الأمريكية مرةً أخرى. فالواضح أن واشنطن راهنت من جديد على عدة مسائل، لم تفلح بها. فقد فشلت السعودية في دورها المطلوب وبان فشلها منذ البداية. فالعدوان على اليمن ألحق بها أضراراً زادت على خساراتها السابقة قبل الحرب. كما أنها لم تنجح بقيادة منظومة التوازن التي سعى الأمريكي لترسيخها. حيث أنها فشلت في إقناع مصر وباكستان في المضي قدماً معها. في وقتٍ نجحت في الإتفاق مع التركي والقطري على بعض القواسم المشتركة بالتحديد فيما يتعلق بالأزمة السورية، مما أدى الى توحيد جبهة الإرهاب في سوريا.
لذلك وعلى عكس المراهنات، تحول الفشل السعودي الى تراجع في الرصيد الدولي للرياض الى جانب الخسائر الأخلاقية والإنسانية التي حلت بها نتيجة حربها الهمجية، مما دفع بالحل السلمي السياسي الذي نادت به إيران أولاً، للعودة الى صدارة واجهة الحلول، وهو ما اضطرت أمريكا لدعمه رضوخاً.
كما أن الترويج الإعلامي لإنتصارات الإرهاب في سوريا والعراق، هو امرٌ أصبح يضر بالمصالح الأمريكية الى جانب تهديده الدول الخليجية. فالدول الأوروبية اليوم أصبحت بأمس الحاجة إلي إعادة الشعور بالأمان لديها، مع تزايد نزوح الإرهاب من ليبيا الى أوروبا عبر إيطاليا. وهو الأمر الذي شكل بداية شعور دول الإتحاد الأوروبي بأزمة تغلغل الإرهاب، مما سيدخلها في صراع وجودٍ مقلق. كما أن الدول الخليجية بطبيعة بنيتها الإجتماعية والسياسية لا تستطيع تحمل أعمال الإرهاب الذي تطور ليمتد للداخل السعودي. الى جانب أن الدور التركي الفعال في دعم الإرهاب واحتضانه، أصبح يُحرج الأطراف كافة لا سيما التركي الذي يلقى إستياءاً داخلياً بسبب هذه السياسة الخطيرة.
من جهة ثانية لم تتناغم سياسة الكيان الإسرائيلي مع السياسة الأمريكية في إحداث توازنٍ جديد. فقد حاولت أمريكا إقناع الطرف الإسرائيلي بإنجاز التسوية مع الفلسطينيين عبر ممارسة الضغط من خلال الإعترافات الأوروبية والدولية وآخرها الفاتيكان، لكن دون جدوى. وكل ذلك ليس حباً بفلسطين، بل محاولةً من الطرف الأمريكي إعادة ترسيخ واقعٍ سياسيٍ يكون هو عرابه، في ظل رؤيته أن الأمور تسير نحو الإنفلات من يديه بشكل نهائي.
إذاً سقطت الإستراتيجية الأمريكية في إحداث واقعيةٍ كلاسيكية مبنية على التوازن السياسي، قبل ولادتها. فالعارف بخفايا التخطيط الإستراتيجي، يعرف أن هذه السياسة لا تنجح إلا في واقعٍ سياسيٍ مبنيٍ على الثقة بين أطرافه، الى جانب وجود شيءٍ من الإستقرار السياسي. وهو ما لا تتصف به منطقتنا. لكن الأهم من ذلك هو أن المخطط الأمريكي يعرف ذلك، وإنما قرر الإختيار بين السيء والأسوأ.
محمد علي جعفر
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق