الاتحاد الاوروبي وروسيا وفقدان الاستراتيجية المؤثرة
منذ مجيء فلاديمير بوتين على رأس السلطة في روسيا عام 1999 بدأ هذا البلد يستعيد قوته تدريجياً بعد أن تضاءلت الى حد بعيد نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1991.
وسعى بوتين الى انهاء حالة التقهقر السياسي التي عانت منها روسيا في زمن الرئيس الاسبق بوریس یلتسین.
ولأول مرة منذ سنة 1987– التي أمر فيها الرئيس الاسبق ميخائيل غورباتشوف بإعادة الاسطول الحربي الروسي الى قواعده – قام بوتين باصدار أوامره لإعادة قسم كبير من هذا الاسطول الى المياه الدولية في شمال المحيط الهادي، والمحيط الاطلسي، والبحر الأبيض المتوسط. وتمكن بوتين من خلال هذا الاجراء المهم من استعادة هيبة روسيا التاريخية في إطار مساعيه لإظهارها مرة أخرى كقوة دولية كبرى.
وتجدر الاشارة الى ان علاقات روسيا مع الاتحاد الأوروبي والتي تعد الأكثر تعقيداً في النظام الدولي شهدت تحديات كبيرة وكانت على الدوام مبعث قلق لدى الطرفين بسبب الاحتياج المتقابل في مجال الطاقة والقضايا المتعلقة بأوروبا الشرقية. ويمكن القول إن المصالح المتضاربة والمشتركة في آن واحد هي التي جعلت العلاقات معقدة ومتشابكة بين هاتين القدرتين واللاعبيْن الاساسييْن في توازن القوى على الصعيد الدولي.
ولكن رغم هذا الترابط الاقتصادي العميق بين روسيا والاتحاد الأوروبي والذي كان بإمكانه أن يمهد الأرضية لرسم مستقبل قائم على اساس المشاركة السياسية، إلاّ أن التغيرات التي حصلت فيما بعد قضت على هذا الأمل الى درجة جعلت هذه العلاقات مهددة بالانهيار في أي لحظة.
وقبل اندلاع الازمة الاوكرانية سعى الاتحاد الاوروبي الى انتهاج دبلوماسية تجنبه تصعيد الموقف مع روسيا نظراً لأهميتها في تأمين ما يحتاجه من الطاقة، ولهذا لم يقف الاوروبيون الى جانب حليفهم رئيس اوكرانيا السابق فيكتور يوشنكو، وكانوا يدعون فقط إلى المصالحة والتراضي بين الأطراف المتنازعة في هذا البلد.
ومع اندلاع الأزمة في أوكرانيا عام 2014 والتي بدأت بخروج تظاهرات في كييف وانتقالها فيما بعد الى شبه جزيرة القرم دخلت العلاقات بين موسكو والاتحاد الاوروبي مرحلة جديدة عندما سعى الاخير الى فرض عقوبات اقتصادية على روسيا لإرغامها على التراجع عن موقفها حيال اوكرانيا. وينظر الاتحاد الى علاقاته مع روسيا بتوجس بسبب التأثيرات السلبية لأزمة الطاقة على دول الاتحاد وقدرة موسكو على توظيف هذه الازمة لصالحها.
ولهذا لم يتمكن الاوروبيون من اتخاذ اجراءات قاسية جداً ضد روسيا سوى العقوبات الاقتصادية لأنهم يخشون من انقطاع النفط والغاز الروسي عنهم ( فروسيا تؤمن 30 بالمئة من حاجة اوروبا للغاز ومعدل هذا الاحتياج آخذ بالازدياد حيث توقعت “المفوضية الأوروبية” ان يصل الى 50% في عام 2030).
وفي الواقع يمكن القول ان شفرة الاتحاد الاوروبي تعمل ببطء مع روسيا، ورغم الضغوط السياسية والاقتصادية التي مارسها الاتحاد ضد موسكو لم يتمكن من ارغامها على التراجع عن مواقفها بشأن الازمة الاوكرانية.
في ظل هذه الظروف يمكن النظر الى تصريحات بوتين الأخيرة خلال المؤتمر الاقتصادي الدولي في سان بطرسبورغ والتي اكد فيها ان بلاده لا تسعى الى فرض معاييرها على الدول الأخرى وترغب باقامة علاقات متوازنة مع الجميع ومن بينها امريكا والدول الاوروبية على انها تصريحات واعدة وتشير إلى رغبة الروس بعدم تأزيم الموقف مع هذه الدول.
والشيء المهم الآخر الذي يمكن استنتاجه من تصريحات بوتين هو أن الروس يطمحون قبل كل شيء الى النظر اليهم من قبل الآخرين كقوة عظمى ولابد من احترامها.
ولكن الملفت للنظر ان امريكا سعت بكل جهدها واكثر من اي وقت مضى الى توظيف الازمة بين روسيا والاتحاد الاوروبي بشأن أوكرانيا لزيادة نفوذها في اوروبا ومواصلة هيمنتها على القرار الاوروبي من جهة، والى ضبط الايقاع الروسي من جهة اخرى، وفي حال استمرت هذه السياسة فليس من المستبعد ان تقوم واشنطن بنشر منظومتها الدفاعية الصاروخية في الاراضي الاوكرانية.
وبالتأكيد فإن هذا الوضع لايصب في صالح روسيا وأي من الدول الأوروبية، وتبقى أمريكا هي المستفيد الوحيد من استمرار التوتر بين موسكو والاتحاد الاوروبي.
وفي هذه الحال فإن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة يكمن في مدى قدرة الاطراف المتنازعة على صياغة استراتيجية دبلوماسية فعالة تركز على كيفية تحقيق المصالح المشتركة لهذه الاطراف. وفي غير ذلك فإننا سنشهد مواجهات اكبر في المستقبل والتي ستقود بدورها الى تنافس تسليحي بدأت علائمه تلوح في الأفق.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق