التجسس على الحلفاء: سياسة واشنطن المركزية، وأسلوبها التاريخي
ضجت الصحف العالمية، لا سيما الأوروبية منها، بقضية التجسس الأمريكي على دول الإتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا. كما دارت تساؤلات كثيرة حول التقارير المُسربة، عن مساعدة الإستخبارات الألمانية الأمريكيين على التجسس على دول الإتحاد الأوروبي. ولعل القاسم المُشترك بين هذه الأخبار، هو تجسس واشنطن على حلفائها. فماذا في آخر مستجدات هذا الملف؟ وكيف أن تجسس أمريكا على حلفائها هو من السياسات التي تعتمدها واشنطن منذ القِدَم؟ وما هي دلالاته الإستراتيجية؟
واشنطن تتجسس على حلفائها:
نددّت فرنسا، بما وصفته بالتجسس “غير المقبول بين الحلفاء” بعدما كشفته وثائق سرية أميركية، سربها موقع ويكيليكس، والتي نشرتها وسائل إعلام فرنسية، أمس، وتحدثت عن أن أمريكا تنصتت على آخر ثلاثة رؤساء فرنسيين، أقله من 2006 إلى 2012. وقال المتحدّث باسم الحكومة الفرنسية ستيفان لوفول، قبيل عقد اجتماعٍ طارئٍ دعا إليه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، بمشاركة الوزراء الرئيسيين وكبار مسؤولي القوات المسلحة والإستخبارات في البلاد، أن هذا التجسس غير مقبول بين الحلفاء. وأفادت مصادر دبلوماسية أن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، إستدعى السفيرة الأمريكية في فرنسا جاين هارتلي في حين أكّد البيت الأبيض، أنه “لا يستهدف ولن يستهدف” مكالمات الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، وذلك إثر نشر الوثائق الأميركية السريّة المسربة.
وكان البيت الأبيض قد رفض في وقت سابق تأكيد أو نفي ما نشرته وسائل الإعلام الفرنسية. وبحسب صحيفة “ليبراسيون” وموقع “ميديابارت” فإن التجسس الأميركي استمر من 2006 ولغاية 2012، وذلك استناداً إلى وثائق “سرية للغاية”، تتضمن خمسة تقارير لوكالة الأمن القومي الأميركي تمّ إعدادها استناداً إلى عمليات إعتراض اتصالات. وبحسب وثائق “ويكيليكس”، فإن هولاند وافق منذ عام 2012 على عقد اجتماعات سرية للتباحث في ما يمكن أن يحصل في حال خرجت اليونان من منطقة اليورو. وبحسب الوثائق نفسها فإن هولاند سعى، من دون علم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلى تنظيم اجتماعات في باريس مع أعضاء من الحزب “الاشتراكي الديموقراطي”، وهو حزب المعارضة الرئيسي في ألمانيا في حينه.
ومن جهةٍ أخرى أدى الكشف عن فضيحة مساعدة الإستخبارات الألمانية، وكالة الأمن القومي الأمريكي على التجسس على شركات أوروبية، الى إحداث ضجة في الإتحاد الأوروبي. وقد أفادت التقارير، أن الاستخبارات الألمانية ساعدت أمريكا على التجسس على مسؤولين حكوميين وشركات في أوروبا منها مجموعة ايرباص.
مشكلة الدول الأوروبية:
قد تكون المشكلة التي تواجهها أوروبا اليوم، وقوعها ضحية تجسس وكالة الإستخبارات الأمريكية. لكن ما يجب معرفته هو أن أوروبا تعتمد في اتصالاتها على خوادم أميركية وليس أوربية. وهذا يعني أن جميع اتصالات دول أوروبا يمكن أن تخضع مثلاً لمظلة وكالة ناسا الأمريكية الفضائية، والتي تستطيع التنصت والدخول على جميع إتصالات الدول الأوربية والعالم أيضاً. ولأن ذلك يهدد الأمن القومي الأوروبي، تحاول أوروبا اليوم، بناء خوادم أوربية خاصة بها، إلا أن هذا يحتاج الى سنواتٍ طويلة.
تجسس أمريكا على الحلفاء أمرٌ قديم العهد:
تعتبر ألمانيا واحدة من الدول التي خضعت الى مراقبة وكالة ناسا بالتنسيق مع البريطانيين. فقد كشفت الإستخبارات الألمانية عن تورط السفارة البريطانية في برلين خلال عام 2014 بنصب أجهزة تقوية إتصالات تنصت على مباني سفارتها في برلين. إن حجم هذه الفضائح دفع برلين لإيفاد ممثليين من الإستخبارات الألمانية الخارجية الـ “B N D” الى واشنطن للوقوف على حقيقة فضائح التجسس ومحاولتها بحثها قضائياً ضد واشنطن.
فقد سبق وتفاعلت قضية تجسس NASA التابعة لوكالة الأمن القومي الأميركي، على هاتف المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” الكثير من ردود الفعل الشديدة على مستوى الحكومة والأعلام. وقد شهدت علاقات أمريكا والمانيا الكثير من فضائح التجسس التي عصفت بمسؤوليين في الإستخبارات في كلا البلدين.
ما يجب الوقوف عنده:
إن ما يجمع أمريكا مع الدول الأوروبية ليس سوى مصالح تقوم على أكاذيب. فإن العلاقة الأمريكية مع دول الإتحاد الأوروبي، علاقة تتصف بـ”قلة القيمة” من الناحية السياسية والدبلوماسية، لسبب أنها لا تقوم على الإحترام المتبادل، بل تقوم على المشاركة في العداء ضد روسيا بالتحديد. وهو الأمر الذي يجعل هذه الدول، تتغاضى عن سلبيات السياسة الأمريكية تجاهها، الى جانب تغاضيها عن الأخطاء الأمريكية التي تترجم نظرة واشنطن البعيدة عن الإحترام تجاه حلفائها. كما أن هذا التغاضي الأوروبي، يدل على أن القيم التي يتغنى بها الغرب ليست سوى أضاليل، للترويج لنفسها كدول تحترم الإنسان، لكنها في الحقيقة تحتقر حقوق المواطن وخصوصياته. وإلا فلماذا تتغاضى معظم الدول الأوروبية عن السياسات الأمريكية التي تناقض مصالح شعوبها، ومنها قضية التجسس اليوم؟
إن لقضية التجسس الأمريكي إرتباطاً وثيقاً بالعقلية الأمريكة في التعاطي. لكنها اليوم تظهر وبوضوح، مدى الإنحطاط ، في السياسة الأمريكية. ليس فقط من منطلق التعامل إنما من منطلق التفكير بالحليف. إذ أن هناك فرقٌ بين إستثمار العلاقات السياسية، وبين إستغلال هذه العلاقات. وما تثبته الأيام، هو أن السياسة الأمريكية قائمة على إستغلال الحليف، من خلال إغراقه بالمشاريع التي تصب في صالح الأمن القومي الأمريكي، وتدخله في دوامة الصراعات القائمة من منطلق مصلحتها وعلى طريقتها، مما يجعله فارغ السياسة الخاصة، وساعياً لسياسة الآخر. وهذا ما تبيِّنه طريقة التعاطي الأمريكية. لذلك فإن الفضيحة الأمريكية بحق أوروبا، لم تكن لتحصل لو أن الدول الأوروبية أخذت على عاتقها السعي لمصالحها الخاصة، أو أنها وضعت من أولوياتها مصالح شعوبها. لكن الطرف الأمريكي، الذي يتقن فن التعاطي البراغماتي، أدخل الأوروبيين في دوامة صراعاته، وكان يستخدم تقنياته التجسسية، للإبتزاز من جهة، ولجمع المعلومات من جهةٍ أخرى، وهما الأمران اللذان يجعلانه يمتلك الحليف، ويحوله الى أداة. هذه هي حقيقة أمريكا.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق