قراءة موضوعية تقييميَّة: لماذا نجحت إيران في المنطقة، فيما فشلت أمريكا و الدول الأخرى؟
توصيفٌ دقيقٌ وموضوعي لمكانة إيران اليوم:
تدرك القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا، مدى قدرة إيران ودورها، في تحقيق الأمن والسلام في المنطقة. فواشنطن تعرف أن قواعدها التي تتواجد في المنطقة الخليجية، لا يمكن أن تبقى آمنةً من دون استقرار هذه المنطقة. وهو الأمر الذي طالما سعت إليه، لكنها، قد تكون نجحت في مكانٍ ما وفشلت في أماكن أخرى. لكن الشيء الذي أدركته أمريكا ومنذ فترةٍ ليس بقصيرة، أن إستقرار المنطقة لا يمكن أن يحصل دون الشراكة مع طهران. فإيران أثبتت خلال ٣٥ عاماً من العمل السياسي وبالتحديد من خلال تعاطيها مع الملفات الخارجية، قدرةً عاليةً على المناورة السياسية، إنطلاقاً من مصالح طهران القومية، دون المساس بمصالح الشعوب الأخرى لا سيما العربية. وهو الأمر الذي جعل لإيران قابليةً لدى الأمة بأسرها. فالتاريخ السياسي المعاصر، ومن خلال قراءته وتقييمه، يُظهر وبوضوح أننا اليوم أمام نتيجةٍ مفادها، تعاظمٌ لدور إيران في المنطقة، وضرورةٌ لحضورها في كافة الميادين، على عكس واشنطن التي أصبحت تتوسل العلاقات، لإعادة بناء النفوذ وفرض القواعد. فكيف حصل ذلك؟
إيران وإدارة الصراع:
نجحت إيران في صنع مكانتها من خلال إتباع سياسة إحترام إرادة الشعوب. وهو الأمرالذي يُعتبر الأصعب، للدول التي تسعى لبسط نفوذها. إذ أن أغلب الدول تواجه مشكلة إيجاد القواسم المشتركة، بين مصالحها ومصالح الشعوب الأخرى. لكن النجاح الإيراني في هذه المسألة، سببه أن طهران ومنذ بداية عملها السياسي بعد إنتصار الثورة، إنطلقت من مفهوم تعزيز العلاقات على أساس الشراكة، وتحييد كل ما يمكن أن ينشأ عنه خلافات، قد تُفضي الى ضرب هذه الشراكة. وتُعتبر طهران نموذجاً في العمل السياسي والدبوماسي، القائم على مبادئ ثابتة اتبعتها في استراتيجيتها طويلة المدى، كما أنها لم تخالفها في سياساتها الظرفية.
فالمُتابع لحركة القيادة الإيرانية منذ ما بعد الثورة، يجد أن الثوابت في إستراتيجية طهران بقيت وما تزال أساس حراكها السياسي والدبلوماسي. فأولوية القضية الفلسطينية، ونصرة المستضعفين، الى جانب الوقوف مع حركات التحرر العالمية، كلها سياسات عملت إيران على أساسها، وبالعلن. وهو الأمر الذي أدى بالمحصلة، الى ثقة الشعوب بها، لما اكتسبته إيران من مصداقية تاريخية. وهنا تختلف سياسة طهران عن غيرها، ومنها أمريكا، والتي تعي الشعوب بأسرها أن سياساتها لا تقوم إلا على المصلحة، وهو الأمر الذي تُعرف به واشنطن تاريخياً، أي البراغماتية السياسية.
الدور الفعال في التعاطي مع ثورات ما سمي بالربيع العربي:
وهنا عندما يأتي الحديث عن ثورات الربيع العربي، نقول أنها عندما بدأت وكان لواشنطن الدور الأكبر في إشعالها، أخطأت العديد من الدول في فهم معنى مصالح الشعوب. فيما نجحت إيران بعقلانيتها المعهودة، قيادة مواقفها، دون التقليل من أهمية حصول الشعوب العربية على حقوقها المسلوبة في ظل أنظمة ديكتاتورية، لكنها أخذت بعين الإعتبار أولويات الصراع، بحيث أن الانظمة التي أراد البعض إسقاطها، كانت صنيعة إرادة الغرب. وهنا حاولت إيران الإضاءة على أسرار خفية في الصراع، فحواها السؤال التالي: لماذا تسعى أمريكا ومن خلال إستغلال مصالح الشعوب، إسقاط أنظمةٍ هي كانت وراء صنعها، وتحت مسميات الديمقراطية؟
وهنا لم تفهم أغلب الأطراف الفاعلة، بُعد النظر الإيراني، فتركيا إستغلت الأوضاع للبحث عن دورٍ لها، والسعودية ودول الخليج كانت السباقة الى السعي لإسقاط بعض الأنظمة، لأسباب أيديولوجية تارةً، ولأخرى سياسية أخرى، نتيجة دخولها في المخطط الأمريكي. بينما كانت إيران السبَّاقة الى التحذير من خطورة ما يسعى له الأمريكي، وهو تقسيم المنطقة، لبسط السيطرة عليها. لكن الحكمة العربية حينها، والخليجية بالتحديد، كان همُّها كيف يمكن كسر محور الدول التي ترتبط بإيران. فالساحة العربية مُشرَّعة للتغيُّرات، وليَكُن أحد الأهداف ضرب محور المقاومة، وهو الأمر الذي لا يمكن إحداثه إلا بإسقاط النظام السوري وكسر حزب الله اللبناني، وإبعاد حركات المقاومة الفلسطينية عن طهران.
حينها ضاعت الشعوب، بين صراعٍ ظنت أنه سيخلصها من أنظمةٍ ديكتاتورية حكمتها لسنوات، وبين مؤامرةٍ واضحة الأهداف لا تقتصر على الفوضى بل تنتهي بنشر الإرهاب وتقسيم المنطقة. وهنا تميَّزت إيران في مواقفها، لتجد لها آذاناً في الأمة العربية والإسلامية. فالسياسة القائمة على إحترام الشعوب أثمرت قبولاً لمشروع طهران المقاوم. بينما سقطت واشنطن وأدواتها، عندما فشلت في إثبات خياراتها، وأرست من خلال سياساتها طموحاتها التقسيمية، وهو ما تزامن مع تصاعد الوعي لدى الأمة، فكانت إيران الخيار والملجأ للجميع، بينما سقطت أمريكا وكل من كان يعيش على أساس حساباتها.
الدور الإيراني في القضاء على الإرهاب:
كما نجحت إيران في التعاطي مع ملف الثورات العربية، نجحت في مسألة القضاء على الإرهاب. فقد أثمر الوعي الإيراني لحقيقة السياسة الإقليمية والعالمية، في تقييم الواقع السياسي بطريقة صحيحة. وهو الأمر الذي أدى الى قدرة طهران على تحديد خياراتها الظرفية والإستراتيجية في مكافحة الإرهاب. فإيران لم تبع حلفاءها وبالتحديد النظام السوري لمصلحة، بل قامت بالوقوف الى جانبه وبالتحديد عندما كان البديل في سوريا الإرهاب الداعشي. كما وقفت الى جانب الشعب العراقي ودعمته من أجل القضاء على تمدد الإرهاب فيه. وهو الأمر الذي فشلت به أمريكا والآخرين.
النتيجة:
في الوقت الذي يتم الحديث ويُروَّج لما يسمى بتمدد الهلال الشيعي الإيراني، يتبيَّن من خلال الواقع السياسي الحالي لإيران في المنطقة، أن المكانة التي تحظى بها طهران، هي نتيجة طبيعية لسياسة إحترام الشعوب وإراداتها، وبناء العلاقات الخارجية على أساس الإحترام المتبادل. الى جانب التعاطي مع الحليف كشريك وليس كأداة. وهي الأمور التي ساهمت في نجاح طهران، بينما في المقابل أدت الى تراجع الآخرين وسقوطهم في أفخاخ السياسة الظرفية، والمصالح الآنية. لنصل الى نتيجة مفادها أن كافة الأطراف حصدت ما زرعته. وبالتالي فإن مشلكة إيران هي في نجاحها في الملفات التي فشل فيها الآخرون، وما الإتهامات التي تُحاك ضدها، إلا محاولات لإقصائها، من الواضح أنها لن تُفلح. في ظل إدراكٍ للدول الفاعلة عالمياً للدور الإيراني الفعال، وضرورة وجوده في كافة الملفات في المنطقة لا سيما مسألة مكافحة الإرهاب. لذلك، حين تُدرك هذه الحقيقة الدول الأقوى في العالم كروسيا والصين وأمريكا، فهذا كافٍ لمعرفة حقيقة الحجم الذي تتمتع به إيران. ولا داعي للمزيد .
محمد علي جعفر