حين تَضيع الدول الأوروبية بين صراع المصالح وصراع الأولويات…
تسعى الدول الأوروبية لسياساتٍ أبعد ما يمكن وصفها بالسياسات الخاصة. فعادةً ما تقوم الدول بوضع استراتيجياتٍ لها، تراعي فیها مصالحها الخاصة، إلا أن قراءة الواقع السياسي والإقتصادي للدول الأوروبية، يُظهر حجم التخبط في الأولويات، لدى دولٍ رهنت إستمراريتها بالتبعية لسياسة واشنطن. وهو الأمر الذي لا يصب في مصلحة شعوب هذه الدول. وهنا يجري الحديث اليوم عن أزمة الطاقة الموجودة الى جانب الأزمات الأخرى السياسية والإجتماعية، والتي لن تعاني منها أمريكا بل ستعاني منها أوروبا فقط، في حال استمر التعنت السياسي للدول الأوروبية، في تعاملها مع القطب الروسي بالتحديد. فكيف أضحت هذه دول رهينة السياسات الأمريكية؟ وما هو المتوقع لها؟
أولاً: قراءة توصيفية لواقع الدول الأوروبية وسياساتها المتناقضة:
إذا كانت الإمبراطورية السوفييتية، حسب تعبير البيت الأبيض، قد انهارت منذ فترة طويلة، فإن الطموح الغربي للإستيلاء على السياسة العالمية لا يزال مستمراً حتى هذا اليوم. وهنا علينا أن نؤكد، بشكلٍ قاطع، أن التناقضات في سياسة (G٧) أو مجموعة الدول السبع الكبرى (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا وأمريكا) تؤثر على أوروبا أكثر بكثير مما تؤثره على أمريكا. حيث أن اثنين من أضخم موردي الطاقة إلى أوروبا الغربية، هما روسيا وإيران، واللتين تتضرران من العقوبات التي تفرضها واشنطن عليها، وتقودها من خلال دول (G٧). ولذلك فإن سياسات واشنطن تجاه دولٍ كروسيا وإيران، ستضرُّ حتماً الدول الأوروبية، في وقتٍ ما يزال من المُستغرب فيه، مضي هذه الدول في السياسة الأمريكية.
وهنا يمكن القول أن أوروبا تدفع فاتورة ممارسات هذه المجموعة وتجاوزاتها. إذ أنه لا يمكن القول بأن مصالح هذه الدول متجانسة، حيث يبدو بوضوح تناقض مصالحها. وعليه فإن التسريبات الإعلامية والإستخباراتية مؤخراً، تحدثت عن أن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قامت بسؤال الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حول عزمه على تدمير الإقتصاد في أوروبا لتحقيق طموحه الواهم بإدامة الهيمنة الأمريكية. وهو ما يؤكد حقيقة أن الدول الأوروبية تؤمن بأن أمريكا تسعى لمصالحها، دون الأخذ بعين الإعتبار مصالح حلفائها.
وعلى الرغم من سعيها إلى التخفيف من وطأة التوترات مع روسيا، تناور دول أوروبا، محاولةً منع تحويل (G٧) إلى منصة للمواجهة بين الغرب وروسيا، لأن ذلك سيكون كارثياً بالدرجة الأولى على أوروبا ذاتها ومصالح شعوبها. وهذا ما يدفع بلدان القارة إلى البحث عن حلٍ سلمي للأزمة الأوكرانية، عبر التعاون السري غير المرحب به من واشنطن، مع روسيا، التي تجمعها معها روابط جيوسياسية واقتصادية تتصل بالوحدة الأوروبية الحقيقية وبما يناسب المصالح الأوروبية قبل أي شيء آخر. لكنها في الوقت ذاته سريعاً ما تنهار أمام تعليمات السيد الأمريكي، وتعود لترضخ لواشنطن. وهو الأمر الذي تبيَّن جلياً من خلال الإلتزام بإستمرار العقوبات الإقتصادية على روسيا. فيما تستطيع موسكو، العمل ضمن سياسة التعاطي بالمثل، من خلال إغراق أوروبا بالبرد، ومنع الغاز عنها.
لكن أوروبا المُتخبطة في سياساتها، تقوم بعددٍ من المحاولات لإرضاء واشنطن، عبر ذم الصين. إنطلاقاً من أن الشرق الأقصى وبحر الصين الجنوبي، بعيدان آلاف الكيلومترات عن القارة الأوروبية، فلا مانع لدى الأوروبيين من تصعيد اللهجة، الكلامية فقط، مع الصين، بينما في الخفاء، تمد اليد إليها لإنجاز المشاريع الإقتصادية الموعودة والتي تجري ببطء وثبات بينهما.
ثانياً: قراءة في الدلالات:
لا شك أن الدول الأوروبية اليوم تؤمن أكثر من أي وقتٍ مضى، بضرورة الإلتفات الى مصالحها القومية، والسعي للتفريق بين المصالح الخاصة بالأمن القومي للدولة، وبين المصالح القائمة على أساس سياسة الحلفاء. وهنا يجب الإلتفات الى التالي:
– على الرغم من إيمانها بأنها حليفة لواشنطن، تُدرك الدول الأوروبية اليوم، أن أمريكا لا ترى إلا مصالحها، وتسعى لسياسة إستغلال الحليف، أكثر من سياسة التعامل معه. وهو الأمر الذي بيَّنته الأزمة الأوكرانية التي أصبحت الوسيلة الأمريكية التي تستخدمها واشنطن، لتقييد أوروبا والضغط على موسكو.
– وهنا تقف هذه الدول عاجزةً بين صعوبة التراجع عن التحالف مع أمريكا من ناحية، وبين محاولة إسترضاء روسيا من ناحيةٍ أخرى. فروسيا لم تعد تنظر لتحالفها مع دول الإتحاد الأوروبي على أنه أولوية إستراتيجية. وهو الأمر الذي يجعل السعي الروسي للطرف الأوروبي، أقل وطأةً من ذي قبل. مما يجعل الخيار الثاني أمراً صعباً على أوروبا.
– كما أن المشكلة القائمة المتمثلة بالوضع المالي والإقتصادي لدول اليورو، يجعل الأمور تزداد تعقيداً، بحيث أن بعض الدول الأوروبية التي تعارض السياسات الإقتصادية لدول الإتحاد، تحاول التقرب من موسكو، وهو الأمر الذي ظهر جلياً من خلال توجه اليونان على سبيل المثال، ويبدو أنه سيكون بداية توجه دولٍ أخرى تعارض سياسة التقشف.
– ولعل هذا من الأمور الذي يجعل الدول الأوروبية، تعاني اليوم من صراعٍ جديدٍ يتعلق بمسألة تأمين إستمرارية المصالح التي كانت قائمة، على صعيد دول الإتحاد الأوروبي ككل. فيما يظهر جلياً وبشكلٍ واضحٍ، حجم التناقض القائم، بين مصالح دول الإتحاد فيما يخص السياسات الإقتصادية والدبلوماسية. ومن بين أهم المشكلات التي تعاني منها بعض الدول كبريطانيا مثلاً، الى جانب مشكلة التخبط الإقتصادي، توجد مشكلة إنفصال اسكتلندا، وهو الأمر الذي يعتبر نموذجاً للمشكلات الخاصة بكل دولة.
ثالثاً: النتيجة:
لا شك أن الأمور تزداد تعقيداً اليوم فيما يخص الأولويات المطروحة. فالدول الأوروبية لم تعد تتفق في مصالحها القومية، كما أنها أصبحت تعاني الى جانب ذلك، من مسألة الإستقرار الداخلي المتصل بمحاربة الإرهاب، والمطالبات الشعبية التغييرية. مما يعني أن الدول الأوروبية، خسرت في علاقتها مع أمريكا، ليس فقط من ناحية إدراك مصالحها الخاصة، بل من ناحية المحافظة على وجودها الإجتماعي السياسي، والذي أصبح رهينة التغيُّرات السياسية والإقتصادية. ولا بد من الأخذ بعين الإعتبار أن كل ما سبق ذكره، يزداد تعقيداً إذا تمت إضافة مسألة ردات الفعل الروسية، والتي يبدو أنها ستكون قاسيةً أكثر من أي وقتٍ مضى، في وقتٍ أصبحت الدول الأوروبية تعاني من صعوبة الإختيار بين المصالح والأولويات.
محمد علي جعفر
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق