العين الإسرائيلية على السودان: مصالح وأطماع
تحتل السودان حيزاً مهماً من السياسة الإسرائيلية، فكل ما يجري في السودان يجري بإشراف ورعاية إسرائيلية، حتى أن الدور الإسرائيلي كان واضحاً في موضوع انفصال جنوب السودان، وذلك من خلال العلاقات التي تجمع هذا الكيان مع حركة تحرير جنوب السودان والدعم الكبير الذي قدمه لها في المراحل المختلفة، بالإضافة إلى صلة زعيم الحركة “جون قرنق” بالكيان الإسرائيلي وزياراته المتعددة له، هذا الإهتمام الذي يبديه الكيان بالملف السوداني يعود إلى الأهمية التي تتمتع بها السودان على الصعد المختلفة، والتي منها:
الأهمية الإقتصادية:
يقدر إحتياطي النفط في السودان بحوالي مليار ومائتي برميل معظمها في الجنوب والغرب، وخاصة في إقليم دارفور الذي يطفو على بحيرة من النفط [١]، ويبلغ الإنتاج ٢٢٠ ألف برميل يومياً ويتم استهلاك ٦٠ ألف برميل محلياً وتصدير ١٦٩ ألف برميل وتشير المصادر المحلية إلى أن الإحتياطي الإجمالي يصل إلى ٣ بلايين برميل، حيث لم يتم اكتشاف إلا ٢٠% من المساحة التي يحتمل تواجد نفط فيها.[٢]
ويملك السودان أهم الموارد المائية المتمثلة بنهر النيل، حيث تقدر الإيرادات السنوية لنهر النيل بحوالي ٨٥.٦ مليار متراً مكعباً [٣]، وكذلك فإن السودان تعتبر من الدول الغنية بالذهب حيث وصل الإنتاج في عام ١٩٩٨ إلى ٥.٦٧ طن بعائدات ٥٤ مليون دولار. [٤]
وفي الوقت الذي يتمتع فيه السودان بوفرة المياه فإن الكيان الإسرائيلي يعاني في السنوات الأخيرة من أزمة في المياه تشمل محورين، الأول: النقص في كفاية المياه حيث يستهلك هذا الكيان منذ عام ١٩٨٥ جميع الموارد المائية المتوفرة، ولقد قام لأول مرة في تاريخه بتقليص حصة الزراعة من المياه بنسبة١٠-١٥% منذ عام ١٩٨٦، الأمر الذي أدى إلى خسارة قدرها ٧٠٠-٨٠٠ مليون متراً مكعباً إضافياً سنة ٢٠٠٠،[٥] والمحور الثاني: ارتفاع نسبة الملوحة في المياه الجوفية ومياه بحيرة طبرية على حد سواء.
هذا وتزايدت الأطماع الإسرائيلية في السودان وخاصة بعد الإتفاقيات الإقتصادية والإستثمارية التي وقعتها الخرطوم مع الصين، والتي كان من بينها اتفاقية تجارية مع شركة (EBE) الصينية، والتي تم التوافق عليها في كانون الثاني/يناير ٢٠١٤ على هامش فعاليات “معرض البحرين الدولي للطيران ٢٠١٤” بقيمة ٦٨٠ مليون دولار.
الأهمية الجيوسياسية:
تعد السودان قبل الإنفصال أكبر دولة في قارة افريقيا، وتملك حدود مشتركة مع ٩ دول، في حين يفصلها عن السعودية البحر الأحمر، وتقدر إطلالة السودان على البحر الأحمر بـ٣٩٠ ميل قبالة شواطئ السعودية وجزرها التي تزيد عن ٣٦ جزيرة في البحر الأحمر[٦]، مما يزيد من أهميتها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية كون هذا البحر يعد ممراً للسفن العسكرية والتجارية ويربط بين شمال العالم وجنوبه وبين شرقه وغربه.
ومساحة السودان الواسعة تمكنها من إرهاق العدو لأنها تملك فرصة أكبر للمناورة، ومع الإمكانات المتوفرة يصبح من الممكن أن تتحول السودان إلى دولة تشكل تهديداً للكيان الإسرائيلي، ويقول آفي ديختر، وزير أمن إسرائيلي سابق، في محاضرة ألقاها ٢٠٠٨ “إن أسباب اهتمام إسرائيل بالسودان، هو أن السودان بمواردها ومساحتها الشاسعة وعدد سكانها محتملة أن تصبح دولة قوية منافسة لبلدان عربية رئيسية”.
الأهمية الاستراتيجية:
لعبت السودان دوراً مهماً في الصراعات العربية، حيث تحولت سنة ١٩٦٧ إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، كما أنها أرسلت قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف التي شنتها مصر عام ١٩٦٨-١٩٧٠ وفي حرب تشرين الأول/أكتوبر ١٩٧٣م.
هذا ويعتبر أمن مصر من أمن السودان، فلا يمكن لمصر أن تستقر إذا كانت السودان مضطربة، كما وتشكل السودان أمن مصر المائي والذي هو من أمنها الغذائي، فلن يكون القرار المصري مستقلاً إذا لم تكتفِ ذاتياً من الغذاء، وبما أن مصر تعتبر من الدول العربية المهمة فإن السودان يمكن أن تكون نقطة ضغط مهمة على القرار المصري.
الأهمية التي تمتاز بها السودان جعلتها محطة لأنظار الكيان الإسرائيلي الذي باشر مخططاته بتقسيمها إلى دولتين كخطوة أولى، وذلك تحقيقاً لسياسة ديفيد بن جوريون، أوّل رئيس وزراء في الكيان الإسرائيلي، والذي أكد على أهمية زرع الفتن والإنقسامات العرقية والطائفية في الدول العربية لحماية هذا الكيان وتوفير مقومات بقائه، وكذلك فإن “جولدا مائير” رابع رئيس وزراء للحكومة الإسرائيلية أكد على أن “إضعاف كل من العراق والسودان يتطلب إثارة النعرات العرقية فيها”.
السياسة الإسرائيلية هذه لم تتوقف عند تقسيم السودان إلى دولتين، فالسعي الإسرائيلي لايزال مستمراً لتفتيت السودان إلى أجزاء أخرى، وقد ظهرت مؤامرة التقسيم هذه في كتاب “إسرائيل والحركة الشعبية لتحرير السودان” الذي أصدره مركز دايان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة تل أبيب، وبحسب الكتاب فإن الكيان الإسرائيلي يسعى إلى تقسيم السودان إلى خمس دويلات (دارفور، جبال النوبة، الشرق، السودان الجديد، السودان الشمالي) وذلك بهدف إضعاف الخاصرة المصرية، وحرمان العرب من مصدر تمويني وغذائي كبير بالإضافة إلى استغلال الكيان الإسرائيلي لمياه النيل رغم أنف مصر.
وعلى خطى هذه السياسة، لازال الكيان الإسرائيلي ينفذ مشاريعه في السودان والسودان الجنوبي، فبعد الإنفصال تشكلت علاقات متينة بين هذا الكيان وجنوب السودان الذي قال رئيسه “سيلفا كيير” في اجتماع مع الرئيس الإسرائيلي “شمعون بيريز”: “بدونكم لم نكن لنوجد”، وبدوره أكد بيريز قائلاً: “عقدت أول لقاء بالسودانيين في باريس وقدمنا لكم مساعدات كبيرة في مجالي البنى التحتية والزراعة”، متابعاً: “إن إسرائيل ما زالت تقدم المساعدات لجنوب السودان في شتى المجالات”.
تصريحات “سيلفا كيير” تؤكد دعم الكيان الإسرائيلي ورعايته للإنفصال، فجنوب السودان الذي انفصل في ٩ يناير/كانون الثاني حاز على إعتراف إسرائيلي في ١٠ يناير/كانون الثاني، أي بعد يوم واحد على الإنفصال، ليكون الكيان الإسرائيلي أول دولة في العالم تعترف بجنوب السودان، وكان رئيس وزراء الکيان الاسرائيلي “بنيامين نتانياهو” قد أعلن في بيان أن الحكومة الإسرائيلية اعترفت بجنوب السودان “متمنية للبلد الجديد النجاح والتوفيق”، وقال البيان “بالأمس ولدت دولة جديدة جنوب السودان، أنا أعلن هنا أن إسرائيل تعترف بجمهورية جنوب السودان” مضيفاً “ونتمنى لها النجاح والتوفيق كبلد ساع للسلام”، وأكد البيان على أن “إسرائيل تتطلع للعمل مع جنوب السودان”.
العلاقات بين الكيان الإسرائيلي وجنوب السودان ليست جديدة، وتاريخها يعود إلى عام ١٩٦٧م، وذلك حسب ما كشفه خبير الشؤون الإفريقية، الإسرائيلي “متساريا موننا”، ففي ١٩٦٧ عرض الجنرال جوزيف لاجو لونجا -مؤسس حركة جنوب السودان- على الكيان الإسرائيلي استعداده لتقديم المساعدة لتل أبيب للحيلولة دون اشتراك الجيش السوداني مع الجيش المصري في محاربته، وعلى الفور وجهت رئيسة الوزراء الإسرائيلية “جولدا مائير” دعوةً له لزيارة تل أبيب، وقامت بتكليف الجيش الإسرائيلي بتدريب أتباعه، وزودتهم بالأسلحة التي يحتاجونها، وتم تنسيق عملية المساعدات “الإسرائيلية” لجنوب السودان مع كل من كينيا وإثيوبيا.
العلاقات الإسرائيلية مع حركة جنوب السودان بقيت مستمرة إلى ما بعد الإنفصال، ففور تشكيل جنوب السودان أعلنت وكالة “إسرا آيد” التي تتألف من منظمات إغاثة إسرائيلية ومنظمات أهلية، عن إرسالها مساعدات إنسانية لجنوب السودان “بالنيابة عن الشعب الإسرائيلي واليهودي كبادرة حسن نوايا بين الشعبين”، بالإضافة إلى أن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “دان مريدور” بادر بالتعاون مع رئيس الموساد “تامير باردو” إلى إقامة محطة إقليمية رئيسية للموساد في عاصمة جنوب السودان “جوبا”، تعمل هذه المحطة كقاعدة عسكرية برية وبحرية وجوية، وهذا يجعل من جنوب السودان “كياناً إسرائيلياً” في إفريقيا يعمل على نقل المشروع الصهيوني إلى القارة السوداء، وحفظ مصالح الكيان الأم في هذه القارة، وهذا ما أكده خبير الشؤون العربية، الإسرائيلي “تسيفي برئيل”، في تقرير نشرته صحيفة هآرتس في أواخر ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٠م، أي قبل الإنفصال بمدة قصيرة، وقال في التقرير: “إن هناك دولة إفريقية مستقلة جديدة ستعلن قريبًا (جنوب السودان)، وبالطبع سيكون لإسرائيل ممثلون بها”، وقد ظهر إخلاص جنوب السودان للكيان الإسرائيلي في الهجومين المنفصلين اللذين شنهما الطيران والبحرية الاسرائيلية خلال تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١١ في عمق الأراضي السودانية ضد قوافل سيارات إدعى الكيان الإسرائيلي أنها تحمل سلاحاً مُرسلاً إلى غزة.
ومن أهم المصالح الإسرائيلية في جنوب السودان الثروة المائية في نهر النيل، فبالإضافة إلى حصول الكيان الإسرائيلي على مياه نهر النيل التي يحتاجها بسبب ملوحة المياه في أراضي الكيان وقلتها، سيكون قادراً على التحكم بمنسوب مياه النهر، عبر بناء المزيد من السدود وإقامة المشروعات المائية التي بدأت في أواخر ٢٠١٢، حيث تم توقيع اتفاقية تعاون للبنية التحتية المائية والتنمية التكنولوجية بين جنوب السودان والكيان الإسرائيلي، وذلك ضمن مشروع مشترك بين ألمانيا والكيان الإسرائيلي وكينيا لتطهير مياه بحيرة فيكتوريا التي تشكّل المنبع الرئيس لنهر النيل، وتعتبر أكبر خزان للمياه العذبة في أفريقيا، وذلك بهدف “إعادة الثروة السمكية إليها وإبادة نباتات مائية ضارة سيطرت على البحيرة”.
دخول جنوب السودان في المشاريع المائية الإسرائيلية يعني إمساك السودان ومصر من خاصرتهما الرخوة، وشد الخناق المائي عليهما، ورفع منسوب الإبتزاز السياسي والاقتصادي والأمني ضدهما، وصولاً إلى ما هو أفظع وأشد خطورة، فالتوتر يطغى على علاقة هذين البلدين مع معظم دول حوض النيل وخاصة إثيوبيا التي لاقت معارضة مصرية شديدة إزاء بناء سد النهضة إذ رأت فيه مصر تهديداً لأمنها المائي ومنعها من حصتها المائية، وعلى هذا فقد أصبحت القضية أكثر تعقيداً بالنسبة لمصر والسودان إذ دخلت جنوب السودان ضمن المشاريع الإسرائيلية التي تشمل القطاع العسكري والإقتصادي والمائي، فالأوضاع بالنسبة لمصر والسودان أصبحت أسوأ وأشد خطورة.
لا تقتصر المشاريع الإسرائيلية على جنوب السودان، فقادة الكيان الإسرائيلي ينفذون الكثير من الخطط في الداخل السوداني أيضاً، إذ أن الحركة الشعبية- قطاع الشمال المعارضة لحكومة البشير ترتبط مع الكيان الإسرائيلي بشكل وثيق، حيث أكد البشير أن “الحركة الشعبية- قطاع الشمال تتلقى الدعم من الكيان الإسرائيلي ودول ومنظمات أجنبية أخرى،” وكذلك فإن “عاموس يادلين”، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية المعروفة اختصارًا بـ”أمان”، اعترف بالدور الإسرائيلي في إنشاء وتدريب الحركة الشعبية وحركات المعارضة في السودان وخصوصاً دارفور، حيث قال يادلين: “أنجزنا عملاً عظيمًا للغاية في السودان، نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية في جنوبه، ودربنا العديد منها، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية لمساعدتهم، ونشرنا في الجنوب ودارفور شبكات رائعة قادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية، ونشرف حاليًا على تنظيم (الحركة الشعبية) هناك، وشكلنا لهم جهازًا أمنيًّا استخباريًّا”، هذا بالإضافة إلى وجود تقارير تشير إلى أنّ اجتماعات المعارضة السودانية في ألمانيا كانت تجري بإشراف إسرائيلي.
رغم كل هذه التدخلات لم يكتفِ الكيان الإسرائيلي، بل كان يلجأ إلى الخيار العسكري بين الحين والآخر منفّذاً غارات داخل الأراضي السودانية بهدف إضعاف السودان وضرب استقرارها، حيث تعرضت السودان إلى النصيب الأكبر من الغارات الإسرائيلية خلال الفترة الماضية مقارنة مع باقي الدول العربية، ففي عام ٢٠٠٩ قام الطيران الإسرائيلي بغارتين قصف خلالهما شاحنات على الحدود المصرية السودانية، وفي ٢٠١١ قام الطيران الإسرائيلي بتنفيذ غارتين جويتين قرب مدينة بورسودان استهدفتا سيارات ادعى الكيان أنها موكب “عبد اللطيف الأشقر” القيادي في حركة حماس، وكذلك شهد عام ٢٠١٢ الغارة الأكبر والأهم على السودان حيث استهدف الكيان الإسرائيلي مجمع “اليرموك” العسكري لتصنيع الذخائر والذي يقع في إحدى ضواحي العاصمة السودانية الخرطوم، وغيرها من الإعتداءات الكثيرة المتكررة والمستمرة إلى عامنا هذا، ففي مايو/أيار من العام الجاري تعرضت قاعدة عسكرية شمال العاصمة السودانية لهجوم إسرائيلي.
وكذلك فإن الكيان الإسرائيلي يعتمد على سياسة الإغتيالات لزرع الإنقسام والتفرقة في السودان، وقد أكد حزب المؤتمر الوطني الحاكم عقب اغتيال رئيس المجلس التشريعي لولاية جنوب كردفان أن “الأجهزة الأمنية سبق لها التنويه بوجود خلايا نائمة تستهدف القيادات السياسية، وتعمل على استغلال المظاهرات العشوائية”، واعتبر الناطق الرسمي باسم الحزب أن الاغتيالات “محاولة لجر البلاد إلى ساحة جديدة غير مأمونة العواقب”، وكذلك أكد سامية نائب رئيس البرلمان وجود “جهات خارجية تحاول تنفيذ أجندة الاغتيالات بالسودان” في إشارة إلى الكيان الإسرائيلي وبعض حلفائه.
الدور الذي يلعبه الكيان الإسرائيلي في السودان ينطبق عليه قانون “فرق تسد”، فالسودان تتعرض لهجمات واغتيالات ونعرات طائفية وعرقية وسياسية تهدف للنيل منها وتقسيمها إلى أكبر عدد ممكن من الدويلات المتناحرة التي تكون محتاجة في بقائها للكيان، مما يتيح استغلال هذه الدويلات لتطبيق المخططات الإسرائيلية في القارة السوداء، إضافةً إلى استغلال الثروات والموارد التي تتمتع بها السودان والتي تؤهلها لتكون قوة إقليمية تحد من الطموح الإسرائيلي في التوسع، الأمر الذي يؤرق صناع القرار الإسرائيليين ويقض مضاجعهم.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق