بين “الاستحالة” و”الاستطاعة” يتأرجح حلمُ تركيا بمنطقةٍ عازلة
لا يُعتبر مشروع إنشاء منطقة عازلة شمال سوريا بالمشروع الجديد، فهذا الإقتراح قديمٌ قِدمَ الأزمة السورية، وتُعتبر تركيا هي الأب الروحي لهذا المشروع، فمنذ بداية الأزمة قام وزير الخارجية التركي في ذلك الوقت داوود أوغلو بتقديم مقترح المنطقة العازلة، ورغم فشل المشروع التركي إلا أن حکومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاتزال تدعو إلى تحقيق هذا المشروع وأعادت طرحه في الفترة الراهنة.
المشروع التركي وإن كان لايزال مطروحاً في بعده النظري، إلا أن أردوغان يدرك بأنه غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع، فإنشاء منطقة عازلة يتطلب موافقة وتفويضاً من مجلس الأمن الدولي، ومن المسلّم أنّ روسيا والصين ستضعان الفيتو أمام مشروع أردوغان، وهنا ستكون تركيا أمام موقف محرج فلا أحد يجرؤ على إتخاذ قرار فردي بعد رفض مجلس الأمن، فهكذا قرار يضع تركيا أمام مواجهة مفتوحة مع جميع حلفاء سوريا قد تصل إلى مواجهة عسكرية، وهنا لن تقوم أمريكا ولا الدول الغربية بحماية الموقف التركي كونها خالفت مقررات مجلس الأمن الأمر الذي لم تجرؤ عليه أمريكا نفسها عندما أرادت الهجوم على سوريا وحال الفيتو الروسي والصيني المزدوج أمام هذا الأمر.
يبقى أمام تركيا خيار واحد وهو اتخاذ قرار أحادي الجانب والشروع بإنشاء منطقة عازلة دون الرجوع إلى مجلس الأمن، وهذا وفق القوانين الدولية يعتبر انتهاكاً للسيادة السورية، الأمر الذي لن تقبل به دمشق ولا حلفاؤها، وستعتبره القيادة السورية بمثابة إعلان حرب، ما يكلف تركيا ثمناً باهظاً وخصوصاً أن حلفاء دمشق كإيران وروسيا لن يقفوا مكتوفي الأيدي، مما يتطلب إعداد الجيش التركي لمواجهة محتملة، بالإضافة إلى تعبئة الشارع والجيش إلى الدرجة التي يصبح فيها إنشاء منطقة عازلة هدفاً يستحق التضحيات.
كما أن هذا المشروع لن يلقى أي دعم غربي، فالدول الأوروبية وأمريكا يدركون أن الهدف التركي المعلن من إنشاء المنطقة العازلة ليس إلا حجة وهمية، فتركيا التي تدعي خوفها على أمنها من الأكراد، لم تحرك ساكناً عندما أعلن تنظيم داعش الإرهابي قيام دولته على بعد أمتار من الحدود التركية، وكذلك فإن أي تحرك عسكري تركي دون موافقة مجلس الأمن سيعزز دور تركيا كدولة داعمة للجماعات التكفيرية وخصوصاً تنظيم داعش الإرهابي الذي رفضت تركيا محاربته في البداية، وهنا سيتعرض المشروع التركي لرفض غربي أمريكي، وإذا صدقت الأنباء التي تفيد بأن واشنطن تخطط لإنشاء شريط كردي على الحدود التركية فهذا يعني أنه إذا أرادت تركيا تنفيذ مشروعها فعليها تحدي أمريكا ودفع أثمان باهظة وخصوصاً أنّ الأمن القومي التركي بات بيد الجماعات المسلحة المتواجدة داخل تركيا والتي تنصاع دون شك للأوامر الأمريكية أكثر من انصياعها لأوامر أردوغان.
ويضاف إلى هذه الموانع أن الجيش التركي يرفض التدخل في سوريا، وهذا ما أكده الجنرال نجدت أوزيل رئيس هيئة الأركان التركية، الأمر الذي دفع أردوغان إلى تعيين وجدي غونول وزيراً للدفاع والمعروف بمواقفه المخالفة لمواقف أوزيل، بالإضافة إلى أن التكلفة الإقتصادية لإنشاء منطقة عازلة عالية جداً وهذا ما يعرقل إنشاء منطقة عازلة، وخصوصاً أن تركيا تشهد تدهوراً إقتصادياً فالدين التركي العام بلغ ٤٠٠ مليار دولار.
هذه الأسباب كفيلة بمنع تشكيل منطقة عازلة في سوريا، والتي في حال تم إنشاؤها (على سبيل الفرض) فإن تداعيات كثيرة تنتظر تركيا، فهذه المنطقة تعني منع استخدام الجيش السوري لسلاح الجو وهذا ما سيقوي الجماعات التكفيرية، ما يشكل خطراً على تركيا ذاتها في المستقبل، كما أن استهداف الأكراد سيتفاقم نتيجة غياب الغطاء الجوي الذي يؤمنه الجيش السوري للجان الشعبية الكردية، وبالتالي فإن أكراد الداخل التركي سينقمون على الحكومة التركية التي تسببت بتدهور الوضع، مما يعرض استقرار وأمن تركيا الداخلي إلى خطر إضافي في حال قيام الأكراد الأتراك بالتظاهر أو في حال نفذ حزب العمال الكردي هجمات داخل الأراضي التركية، كما أن تركيا تلقت تحذيرات دولية عديدة بسبب سلوكها العدائي تجاه الأكراد، وكان آخرها تحذيرات وزير الخارجية الألماني فرانك والتر شتاينماير في هذا الشأن.
وكذلك فإن الشعب التركي الذي أثبتت الإنتخابات الأخيرة رفضه لتدخل أردوغان في سوريا سيزداد نقمةً على الحكومة مع كل جندي تركي يذهب ضحية تنفيذ مشروع أردوغان، بالإضافة إلى أنّ إنشاء منطقة عازلة في سوريا يعتبر تدخلاً سافراً في سيادة الدولة السورية، الأمر الذي سيغير من نظرة الكثير من الدول تجاه تركيا، وخاصة دول الإتحاد الأوروبي التي تحاول إيجاد أي حجة لمنع انضمام تركيا إلى الإتحاد.
إذاً فإن مشروع المنطقة العازلة التي تتحدث عنه تركيا بين الحين والآخر غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع، فالموانع كثيرة وخطيرة، بالإضافة إلى أن تنفيذ هكذا مشروع سينعكس على الداخل التركي بنتائج لاتُحمد عقباها، وعلى هذا فإنّ نداءات هذا المشروع التي تكررها حكومة أردوغان بين الحين والآخر ليست إلا شعاراً تهدف حكومة أردوغان من خلاله إلى استرجاع هيبتها وإظهار أنها لازالت “تستطيع”.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق