قراءة في خفايا صناعة القرار الامريكي (١)… كارتر “أمريكا أصبحت دولة اوليغارشية”
أمريكا… تلك الدولة العظمى على صعيد امكاناتها والتي باتفاق حلفاءها وأعداءها هي والى الامس القريب القطب الاقوى في العالم. حيث تمكنت أمريكا وخلال القرن الماضي من بناء اسطورة عن نفسها تتحدث عن أمريكا الديمقراطية والسلام والمساواة ونبذ التطرف والعنصرية واحترام حقوق الانسان. كما تمكنت من القاء هذه الافكار في عقول البشرية جمعاء. لتنتقل ومن خلال سياسة مدروسة، من مرحلة أمريكا الديمقراطية الى مرحلة أمريكا الحامية للديمقراطيات في العالم والساعية لاحلال السلام ولمحاربة التطرف والراعية لاحترام حقوق الانسان. متغنية بنظامها السياسي الحاكم الفريد من نوعه وبقدرتها الناعمة على التغيير والـتأثير اينما حلت.
كل ما ورد ليس سوى افكار واحداث فيلم أمريكي هوليوودي لطالما حاولت أمريكا ولا زالت اقناع العالم به. وفي ظل المرحلة السابقة (العقود الثلاثة الماضية) والتي كانت أمريكا القطب الاقوى بل يمكن القول الاوحد تمكنت من اقناع الكثير به، خاصة ضعاف النفوس واصحاب الهوى والهوس الغربي – الامريكي. أما اليوم فالواقع مغاير فأمريكا لم تعد القطب الاوحد ويمكن القول انها ليست حتى الاقوى وانما تتشارك مع اقطاب اخرى النفوذ حول العالم. وقد بدأت الهالة التي حاكتها لنفسها بالسقوط وسط تقارير تتحدث عن عنصرية متأصلة في الجينات الامريكية والشواهد على ذلك كثيرة وفتش في نفس الاعلام الامريكي خلال الاشهر الماضية ستجد عشرات الاحداث التي تؤكد ما نقول. وفتش عن الحروب التي تنشرها أمريكا في كل اصقاع الارض وهي الساعية لاحلال السلام في ارجاء المعمورة. فلا تحل الديمقراطية الامريكية بمكان الا وحل الحرب والدمار والتفرقة والتهجير. وكل هذه المفردات الاليمة وبحقيقتها الملموسة في الميدان انما هي من صنيعة حامية الحريات وصانعة الديمقراطيات في العالم “أمريكا”.
وبالعودة الى الشواهد والتي قلنا هي كثيرة فقد نقلت مؤخرا عدة مواقع اعلامية امريكية عن الرئيس الامريكي السابق “جيمي كارتر” تصريحات تؤكد زيف الادعاء الامريكي الذي يتغنى بنظامه السياسي “المثالي”. ففي حديث تلفزيوني يقول كارتر ان أمريكا اصبحت دولة اوليغارشية (حكم الاقلية المرفهة) حيث اعتبر كارتر أن هناك “رشى سياسية غير محدودة في الانتخابات الامريكية” والجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء قد عقدوا امالهم على هذه الرشى باعتبارها منافع شخصية لهم. وانتقد كارتر النظام الحاكم معتبرا الرشوة السياسية اصبحت واقعا يكرسه النظام الامريكي والرئيس نفسه.
وفي جواب له على سؤال يتعلق برأي المحكمة العليا بامريكا في ابريل نيسان ٢٠١٤ والتي أيدت حذف سقف المبالغ المالية التي يمكن تقديمها في الحملات الانتخابية ضمن قانون عرف في حينها باسمCitizens United ، أكد أن هذا القرار يتناقض مع الاصول السياسية الامريكية والتي جعلت من أمريكا دولة عظمى، معتبرا أن القرار هو الاكثر حماقة في تاريخ هذه المحكمة. كما اعرب عن قلقه العميق على مصير النظام السياسي في أمريكا لان جزءاً كبيرا من الاموال المتدفقة تصل الى جيوب بعض السياسيين الممسكين بزمام السلطة الان. وهذا الامر يتعدى الانتخابات الرئاسية الى انتخابات السناتورات واعضاء الكونغرس الامريكي أيضا.
يضيف كارتر ان عضواً حالياً في الكونغرس يمكن أن يؤمن الكثير من المصالح لاصحاب النفوذ من الراشين. واعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي يتشاركون النظرة الى هذه الاموال على أنها مزايا مالية خاصة بهم. وحتما ان الراشين من اصحاب المال ينتظرون المقابل المعنوي لدعمهم المادي. معتبرا ان نظام الانتخابات الامريكية هو من الاسوأ في العالم.
طبعا وللوقوف على هذه التصريحات من الضروري العودة الى شخصية الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر. وهو المعروف بدفاعه عن حقوق الدول العربية وفلسطين في وجه الکيان الاسرائيلي والداعي الى عدم الانحياز بشكل سافر الى هذا الکيان. وخلال فترة رئاسته لأمريكا الممتدة بين ١٩٧٧ الى ١٩٨١ حاول العمل من اجل السلام بين العرب والکيان الاسرائيلي ووقع على عهده عام ١٩٧٨ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والکيان كخطوة اولى نحو السلام. وتشير المعلومات الى ضغط من اللوبي اليهودي عليه خلال فترة حكمه. وقد تعرض الى عدة انتكاسات خلال عهده كان آخرها وقبيل رحيله المحاولة الفاشلة لانقاذ الرهائن الامريكيين المحتجزين في السفارة الامريكية في طهران ابان الثورة الاسلامية عام ١٩٧٩. والتي من المؤكد أن اللوبي اليهودي قد استفاد منها ومن احداث اخرى لتأليب الرأي العام الامريكي ضده.
ومن خلال ما سلف من معلومات عن كارتر ندرك أن الاخير وهو العالم بجزء كبير من خفايا صناعة القرار الامريكي انما يحاول رفع الصوت في وجه مجموعات الضغط وعلى رأسها اللوبي اليهودي في امريكا من اجل تحرير الادارة الامريكية من هيمنة هذه المجموعات والتي عايشها بنفسه ابان رئاسته.
لقد تمكنت أمريكا ومن خلال سيطرتها على الاعلام في العالم عبر وكالات الانباء والقنوات التلفزيونية بالاضافة الى الافلام الهوليوودية الموجهة (كما اشرنا في بداية المقال) طبعا دون أن ننسى القوة غير الناعمة، من التحكم بالسياسة العالمية. ولكن كيف تُرسم هذه السياسات الامريكية ومن هم المؤثرون في صنع القرار في الادارة الامريكية؟ وبالاستناد الى ما قاله الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر، لا بد من التفتيش عن مجموعات الضغط (اللوبيات) واصحاب رؤوس الاموال الذين يمولون الحملات الانتخابية الامريكية والمنضوين عادة في لوبيات مختلفة فاعلة على الساحة الامريكية. فلا بد اذاً من الغوص اكثر لنبيّن ما هي هذه اللوبيات؟ وما هو دورها وأهدافها ومقدار تأثير كل منها في السياسة الامريكية؟ وهذا ما سنستعرضه لكم في الجزء الثاني من المقال.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق