التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, ديسمبر 22, 2024

زمن الإنكسار الأمريكي، عندما تضيع الثقة…(٣) العلاقة مع “تركيا” 

قد قالها “كسينجر” إنّ أعداء أمريکا يجب ان يخافوا ولكن أصدقائها يجب ان يخافوا أكثر. عبارة على لسان ثعلب السياسة الأمريكية تختصر العلاقة التي تحكم أمريكا بحلفائها الذين أصبحوا يستشعرون بخوف وتمرّد الخطر القادم من التراجع الأمريكي ومصالحهم في المنطقة. فالدولة العظمى التي كانت آمرةً وقابضةً على الأوضاع في المنطقة أصبحت محكومة لتعارض أولوياتها وأهدافها مع حلفائها وأدواتها. فقد وصلنا إلى الزمن الذي لا تستطيع فيه أمريكا أن تفرض ما ترغب على أيٍ كان حتى على أصدقائها فالثقة بدأت تضيع والنفوذ يتراجع. إنه زمن التمرّد على “السيد”. زمن الإنكسار الأمريكي. 

 

ففي ظلّ أحداث متسارعة في المنطقة والعالم يأخذ الوضع التركي حيزاً مهمّاً منها، وبعد أن انخرطت تركيا في الحرب على أكثر من جبهة، ظهرت في العديد من المحطات وجهات نظر وأولويات مختلفة بين أنقرة وواشنطن، كانت لعبة المصالح الحاكمة فيها. فالشعور التركي بالخيبة والخذلان من سيدها الأمريكي أوجد مشهداً معقداً سياسياً وأمنياً. ووجدت تركيا نفسها في أزمة تواجه فيها مخاطر داخلية وخارجية لم تستطع في خضمها الإعتماد على أمريكا بل تبيّن لها أنّ واشنطن لديها حساباتها ومصالحها الخاصة التي لا تراعي المصالح التركية ولا التهديدات المحيطة بها.

 

فبعد تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة والتقارب الغربي الإيراني كيف تنظر تركيا للعلاقة مع أمريكا؟ وما هي حسابات أنقرة لهذه الانعطافة الجيوسياسية وتأثيرها على الملف السوري؟ هل أنّ الأتراك أصبحوا يتطلعون إلى الإنفتاح على دول أخرى في ظل تشكّل موازين قوى جديدة في المنطقة ؟   

 

إنّ العلاقات الأمريكية – التركية تعود إلى عدة سنوات خلت. فقد انضمت تركيا إلى “حلف شمال الأطلسي” في عام ١٩٥٢ لترسخ رسمياً التحالف بين الدولتين. وعلاقة أمريكا مع تركيا كانت دوماً يحكمها دافعان أساسيان، الأول هو إبراز النموذج التركي الديمقراطي للدول ذات الأغلبية المسلمة في المنطقة، ولأسباب كثيرة لم يكن النموذج التركي هو النموذج القابل للتكرار في المنطقة لكن هذا لم يمنع واشنطن من دعمه. أما الدافع الثاني فقد كان قناعة أمريكا أن تركيا قادرة على أن تمثل دور الوسيط بين الغرب والشرق الأوسط خاصة الإخوان المسلمين وعلاقتها بإيران. ولذلك اعتبرت أمريكا تركيا حليفاً لا يمكن الاستغناء عنه. ومن جانب تركيا فأمريكا بالنسبة لها هي الحليف الذي تعتمد عليه ويساندها وهي القوة العظمى التي كانت تفرض ما تريد فمن الطبيعي أن تقف تركيا إلى جانبها، وتنحني أمامها عند كل إستحقاق. 

 

لكن أحوال أمريكا تبدلت ولم تعد كسابق عهدها، والعلاقة الودية مع تركيا شابها الكثير من الفتور، والرؤية تجاه الملفات والقضايا في المنطقة تعارضت في الكثير من الأحيان خاصةً في سوريا ومصر. فالوضع الجديد في الشرق الأوسط يدفع أمريكا للتفكير إستراتيجياً بمصالحها المهددة في المنطقة غير آبهة بأداة أو حليف. ويُذكر في هذا السياق العبارة التي قالها أردوغان سابقاً تعبيراً عن استيائه من الحرب الجوية المحدودة التي تشنها واشنطن على تنظيم داعش الإرهابي، وتعارض الأولويات بينهما: “إذا فعلتم شيئاً فافعلوه بشكل صحيح. وإذا كنتم تنوون القيام به معنا، فعليكم أن تقدّروا قيمة ما نقوله. وقد رفضت وقتها تركيا مرات عديدة الطلب الأمريكي للدخول في الحلف الدولي الأمريكي لمحاربة الإرهاب.

 

وفي مشهد آخر في أيار ٢٠١٠ كانت تركيا قد صوتت في مجلس الأمن ضد فرض عقوبات إضافية على إيران، كما أنها ساعدت إيران على الالتفاف على نظام العقوبات الدولية عبر شراء الوقود من إيران بمقابل من الذهب في عملية معقدة، بل إن بعض المسؤولين الأتراك صرحوا بحق إيران الطبيعي بامتلاك برنامج نووي. وفي عام ٢٠١٣ قرر “حزب العدالة والتنمية” شراء منظومات دفاع جوية صينية، مبتعداً بذلك عن التزام تركيا التقليدي تجاه مجموعة “حلف شمال الأطلسي”. وقد توالت الخلافات بشأن سوريا ومحاربة الإرهاب والأكراد وطلب أنقرة بإقامة منطقة عازلة على حدودها الشمالية والتواصل التركي السوري عبر الوساطة الروسية.

 

فالخلاف ظهر إلى الواجهة بشكل كبير عندما بدأ أكراد سوريا بالتقدم على الحدود التركية في وجه داعش وبدعم سوري وتأييد وتغطية أمريكيين، وهنا تباينت الأولويات والأهداف التركية والأمركية بشكل كبير. فقد رفضت أنقرة الإنخراط في المعارك ضد داعش لكون التحالف لا يستهدف القضاء على النظام السوري، ولخشيتها من أنّ دحر داعش سيقوي من وضع أكراد سوريا، وقد يمكّنهم من الانفصال وتحقيق حكم ذاتي مما قد يغذي النزعات الانفصالية عند أكراد تركيا بشكل أكبر، وهو ما يحصل الآن في ظل حرب تركيا على حزب العمال الكردستاني. والحال أن انخراط تركيا في هذه العمليات كان مطلبًا أمريكيًا منذ البداية. واشنطن إذن مستفيدة من العمليات التركية واستطاعت من خلال إتفاق بينهما إستخدام قاعدة انجرليك لضرب تنظيم داعش على حدّ زعمها. ولكن، ماذا ستستفيد أنقرة منها في المقابل؟ من المرجح ألا تستطيع أنقرة ابتزاز واشنطن بمشاركتها العسكرية لتغير من استراتيجيتها في سوريا. فأنقرة أرادت أن تستغل عملياتها ضد داعش لضرب حزب العمال الكردستاني في تركيا والعراق، وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا.

 

وأنقرة قرأت جيداً مشهد الخلاف الأمريكي الإسرائيلي الذي يُظهر بشكل واضح الضعف الأمريكي في السيطرة على أداتها المتمردة، وفهمت بوضوح أنّ صديقها الأمريكي لم يعد يسيطر على الأوضاع في المنطقة وباتت بحاجة إلى تحالفات جديدة قد تصبّ في مصلحتها مستقبلاً، خاصةً أنّ أردوغان كان يتوقع دعم أمريكا له في المحنة السياسية التي يعيشها حزبه. فبعد ما يزيد عن عقد من الاستقرار السياسي سيطر فيها حزب العدالة والتنمية على الحكم خسر أغلبيته المطلقة في آخر انتخابات، وصار معه ثلاث قوى سياسية غيره تشاركه البرلمان. 

 

لكن تركيا ستبقى متعلقة بحبال أمريكا وبالرغم من التقارب الأخير بينهما، تشعر أنّ واشنطن بدأت تقطع الحبال لإغراقها. فهي في وضع لا تُحسد عليه، وقد فُتحت عليها أبواب المواجهة من كل جهة. ففي ظل أزمة سياسية وأمنية داخلية وخارجية تعيشها، تنظر أنقرة بغضب كبير إلى ما وصلت إليه الأمور، وهي كانت تعتقد أنّها بعيدة عن النار التي أشعلتها في سوريا وأنّ أمريكا لن تتركها في وسطها. فقد خابت ظنونها وانتقل اللهيب إلى بيتها. فالأولوية الأمريكية فوق كل إعتبار وميزانها لا يقيس إلا مصالحها، فتركيا كما الكيان الإسرائيلي والسعودية ليست إلا أدوات، لكن الوضع التركي أكثر تعقيداً وأمريكا قد تحسب خطواتها بدقةٍ أكثر في ملعبها. فهل الغرق في وحل المخططات الامريكية لتقسيم المنطقة سيكون مصير تركيا المحتوم؟

 

في الجزء الأخير نتعرض للعلاقة مع الحلفاء الأوروبيين في “زمن الإنكسار الأمريكي، عندما تضيع الثقة…(٤)” . 

المصدر / الوقت

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق