تصريحات أوديرنو: أمريكا وسياسة جسّ النبض
لم تتغير سياسة واشنطن في التعاطي مع إستثماراتها الإقليمية والدولية حيث يعتبر أسلوب “جس النبض” من أهم الثوابت في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أي طرح المشكلة أو المراد تحقيقه في شكل شائعة تروج بين الشعب، أو في صحيفة رسمية عبر أحد أقلامها، أو عبر أحد المسؤولين السابقين، أو حتى عبر رجال تتبوأ مناصب رسمية في الإدارة الأمريكية إذاما إقتضى الأمر ذلك. وعادة ما يتناسب منصب المُصرِّح مع حجم الشائعة وأهميتها بالنسبة للإدارة الأمريكية.
لم تكن تصريحات رئيس الأركان الأمريكي رايموند أوديرنو بشأن تقسيم العراق عن هذا الأمر ببعيد، حيث تحاول واشنطن أن تجس النبض مجدداً عبر بالون إختبار جديد بعد أن طرحته سابقاً بصيغة مشروع في الكونغرس الأمريكي، لتتراجع سريعاً على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جون كيربي الذي أكد أن سياسة بلاده تجاه العراق واضحة، والتقسيم ليس من ضمنها.
لا يمكن التعويل كثيراً على كلام كيري الذي إدعى أن “واشنطن لا تدعم إلا الحكومة في بغداد برئاسة حيدر العبادي”، رغم أن التقسيم مسألة يعود البت فيها للمنطقة وللساسة والدبلوماسيين، وفق أوديرنو، إلا أن تأكيد الأخير على هذه النقطة تحديداً ترسخ مقولة بالون الإختبار الذي سنشهده في المرحلة المقبلة على لسان القادة السياسيين والدبلوماسيين في واشنطن، وربما يتم إستخدام بعض الأصوات العربية والعراقية لاحقاً.
تعكس تصريحات الجنرال اوبيرنو التي ختم فيها حياته العسكرية بإعتبار أن الجنرال مارك ميلي سيحل مكانه، تعكس إستراتيجية أمريكا في العراق والمنطقة، سواءً عبر التقسيم، أو عبر الفتنة المذهبية التي تتقاطع بشكل كبير مع تقسيم المنطقة، لا بل تعتبر عمودها الفقري، وهذا ما يمكن إستشفافه من كلام الجنرال الأمريكي الذي إعتبر “أن المصالحة بين السنة والشيعة تزداد صعوبة يوما بعد يوم”.
لم تنتظر واشنطن طويلاً حتى تحصل على إجابة شافية حول مشروعها، فقد سارع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إلى وصف التصريح بأنه “غير مسؤول ويعبر عن جهل بالواقع العراقي ” ، معتبراً أن “العراقيين يضحون من أجل تعزيز وحدة بلدهم والدفاع عنه، وهم بصدد إجراء إصلاحات كبرى تعيد للعراق مجده وأصالته ” . كما أكد الرئيس فؤاد معصوم أن تقسيم العراق أمر غير ممكن، في حين أكدت المقاومة الإسلامية كتائب حزب الله على لسان قائدها العسكري أن العراق واحد، “وسنقطع اليد التي تحاول تقسيمه، متوعداً بـ”مرغ” أنف رئيس هيئة الاركان الامريكية ريموند أوديرنو وجيشه في التراب في أية منازلة قادمة” .
لم تقتصر الردود العراقية على الصعيدين الرسمي والعسكري، بل شهدت بغداد رفضاً شعبياً لهذا التقسيم، فضلاً عن إطلاق هيئة العلماء المسلمين مبادرة سياسية تهدف إلى التوافق على حل مناسب لإنقاذ البلاد والمنطقة، والتأسيس لوحدة البيت العراقي تحت عنوان “العراق الجامع”. يمكننا القول إن رسالة العراقيين وصلت إلى واشنطن سريعاً، إلا أن هذا الأمر لا يعني تراجع أمريكا عن مشروعها تجاه العراق والمنطقة، وهنا تجدر الإشارة إلى النقاط الآتية:
أولاً: يريد الجنرال أوديرنو قائد القوات الأمريكية في العراق بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٠ إستعادة أمجاد بلاده إبان الإحتلال، ما دفعه للوقوف على أطلال صديقه بول بريمر، الحاكم الأمريكي في العراق، عبر الحديث عن التقسيم بغية الدخول مجدداً للعراق تحت ذريعة داعش، خاصةً أنه حث في الفترة السابقة على إبقاء قوة أمريكية في العراق بعد انسحاب معظم القوات الأمريكية.
ثانياً: بالفعل إن الجنرال أوديرنو جاهل بوضع العراق حالياً، كما إعتبر العبادي. والجهل هنا على سبيل عدم إدراكه بتغيّر المشهد العراقي عن فترة وجوده في بغداد بسبب وجود قوات عسكرية فاعلة بجانب الجيش العراقي تسمى “الحشد الشعبي”.
ثالثاً: إن كلام الجنرال الأمريكي يمثل الإستراتيجية الحقيقية لواشنطن تجاه بغداد والمنطقة، وبالتالي لا يمكن إعتباره زلة لسان أو مبادرة فردية. فالسياسة الأمريكية حالياً تتمثل بتقسيم العراق والضرب على الوترين الطائفي والعرقي في البلاد، كما أن سياستها تجاه المنطقة بشكل عام لا تختلف كثيراً.
رابعا: قد نرى في الفترة المقبلة تصريحات أو حتى إجراءات أمريكية جديدة، تسليح الإقليم والعشائر بعيداً عن حكومة العبادي على سبيل المثال. أمريكا قد تستخدم في بالون إختبارها المقبل بعض الأصوات الداخلية في العراق، ولا نستغرب أن تركب العديد من الدول الإقليمية الموجة الامريكية التقسيمية، سواءً تركيا( تحدث نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج عن المخطط نفسه قبل شهرين تقريباً) أو السعودية أو حتى الكيان الإسرائيلي.
خامساً: تتقاطع تصريحات أوديرنو مع وثيقة إيزنكوت الأخيرة “إستراتيجية الجيش الإسرائيلي”، التي لم تعد ترى تهديداً من الدول الإقليمية الغارقة في مستنقعات الإرهاب.
سادساً: رغم أن واشنطن أحسنت إختيار أوديرنو، بإعتبار أنه أعلن تقاعده وبالتالي يمكن التراجع بسهولة، تماماً كما فعلت واشنطن، إلا أنه لسوء الحظ أم لسوء التقدير الأمريكي، جاءت تصريحات الجنرال الامريكي بعد أيام قليلة على إصلاحات العبادي التي لاقت ترحيباً واسعاً على الصعيدين الرسمي والشعبي، الإقليمي والدولي.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق