“المرمرة الزرقاء” وتداعيات “نسيم البحر” على العلاقات التركية الإسرائيلية
خمس سنواتٍ مرت على عملية “نسيم البحر” الإسرائيلية التي استهدفت “أسطول الحرية”، الحادثة التي وترت العلاقات السياسية بين تركيا والكيان الإسرائيلي، والتي وضعت الحكومة التركية على إثرها ثلاثة شروط للعودة بالعلاقات إلى مسارها الطبيعي، وتتمثل هذه الشروط بتقديم السلطات الإسرائيلية اعتذارًا رسميًا عن الحادثة، وأن تقدم تعويضًا للعائلات التركية أهالي الضحايا، بالإضافة إلى فك الحصار عن قطاع غزة، هذه الشروط في البداية لم تحظ بموافقة قادة الكيان الإسرائيلي، وبقيت العلاقة المعلنة بين الجانبين في حالة من التوتر.
نحاول من خلال هذه الدراسة تسليط الضوء على العلاقات بين تركيا والكيان الإسرائيلي، ومدى أثر الشروط التي وضعتها تركيا ولم تلتزم بها حكومة الكيان الإسرائيلي على العلاقة بين الطرفين.
العلاقات قبل “نسيم البحر”:
اتسمت العلاقات الإسرائيلية التركية قبل حادثة أسطول الحرية عام ٢٠١٠ بأنها علاقات متينة، ففي مايو/أيار ٢٠٠٥ زار “رجب طيب أردوغان”، رئيس الوزراء التركي آنذاك، الكيان الإسرائيلي، واجتمع مع رئيس وزراء الكيان في ذلك الوقت “آريل شارون” ومع الرئيس الإسرائيلي “موشيه كاستاف”، كما زار “أردوغان” النصب التذكاري لـ”محرقة اليهود” وأدان معاداة السامية داعيًا إلى إحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
استمرت العلاقات السياسية بين الطرفين في النمو إلى عام ٢٠٠٨، حيث زار رئيس الكيان الإسرائيلي أنقرة، لتكون تركيا أول دولة ذات غالبية مسلمة تستضيف رئيساً للكيان الإسرائيلي، ودلالةً على حرارة العلاقات بين الطرفين ألقى الرئيس الإسرائيلي خطاباً في البرلمان التركي.
أما العلاقات الاقتصادية بين الطرفين فهي الأخرى شهدت نمواً نوعياً بعد عام ٢٠٠٠ إذ تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة واتفاقية منع الازدواج الضريبي، واتفاقية الاستثمار الثنائي بين الطرفين، وأدت هذه الاتفاقيات إلى نمو كبير في التجارة إذ ارتفعت التبادلات من ٤٤٩ مليون دولار عام ١٩٩٦ متجاوزةً ٢.١ مليار دولار عام ٢٠٠٢، كما ازدادت التجارة بين الطرفين بمتوسط ١٤.٦% سنويًا، بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٨.
دفئ العلاقات السياسية لم يستمر، فشتاء ٢٠٠٩ أدخل شيئاً من البرودة على العلاقات المعلنة بين الطرفين، ففي فبراير/شباط ٢٠٠٩ حدثت مشادات كلامية بين “أردوغان” و”شيمون بيريز” خلال مؤتمر “دافوس” الاقتصادي في سويسرا، إذ أعطى مدير الجلسة ٢٥ دقيقة لبيريز مقابلة ١٢ دقيقة فقط للمسؤول التركي الذي اعترض على الجلسة وانسحب، وعندها بدأت تظهر إلى العلن حالة من التوتر بين تركيا والكيان الإسرائيلي.
في يناير/كانون الثاني عام ٢٠١٠ استدعت أنقرة سفيرها للتشاور نتيجة تعمد الخارجية الإسرائيلية إهانة السفير التركي بعدم وضع علم بلاده على الطاولة، بالإضافة إلى إعطائه كرسياً منخفضاً للجلوس عليه، واستمر التوتر بين الطرفين إلى مايو/أيار ٢٠١٠ إذ أدى مقتل ٩ أتراك على متن سفينة “مافي مرمرة (المرمرة الزرقاء)” التركية المشاركة بأسطول الحرية إلى ازدياد التوتر بين الطرفين وعلى أثر هذه الحادثة سحبت تركيا سفيرها، وخفضت مستوى تمثيلها الدبلوماسي.
ماذا بعد “المرمرة الزرقاء”؟
رغم خفض تركيا لتمثيلها الدبلوماسي وظهور نوع من الفتور في العلاقات بين الجانبين، إلا أن العلاقات لم تنتهِ بين الطرفين، ولازالت مستمرة بعد عام ٢٠١٠، وعلى صعدٍ مختلفة:
أولاً: اقتصادياً:
رغم أن العلاقات السياسية بدت مضطربة بين الجانبين إلا أن المعاملات التجارية لم تحافظ على مستواها الجيد فحسب، بل شهدت تطوراً ملحوظاً، وازداد الاستيراد التركي من ١.٤ مليار عام ٢٠١٠ إلى مليارين في ٢٠١١، كما أن الصادرات التركية هي الأخرى ارتفعت من مليارين عام ٢٠١٠ لتبلغ ٢.٤ مليار في ٢٠١١، ونمت التجارة التركية الإسرائيلية بنسبة ١٩% منذ عام ٢٠٠٩، وازداد حجم التبادل التجاري بين الجانبين ليصل إلى ٣.٤ مليار في ٢٠١٠ بعد أن كان ٢.٥ في العام الذي سبقه، واستمر في الصعود طيلة الأعوام الماضية بالغاً ٥.٧ مليار في عام ٢٠١٤ الذي شهد نوعاً من التعادل في الميزان التجاري حيث تساوت فيه قيمة الصادرات والواردات بين الجانبين والتي بلغت ما يقارب ٢.٥ مليار دولار، وهذا يدل على وجود التكافؤ المالي الذي يعتبر من سمات المعاملات الاقتصادية الناجحة.
ثانياً: عسكرياً:
تزامنت العلاقات الاقتصادية مع علاقات عسكرية جمعت تركيا مع الكيان الإسرائيلي، ووزارة الدفاع الإسرائيلية أكدت أن الصادرات الأمنية لأنقرة لم تتوقف، وفي هذا السياق حدثت صفقة عسكرية بين الطرفين عام ٢٠١٣ بقيمة ١٠٠ مليون دولار، وكانت الصفقة عبارة عن أجهزة إلكترونية لأربع طائرات مزودة بنظام الإنذار والمراقبة “أواكس”، وقدمت هذه الأجهزة شركة “إيلتا” الدفاعية الإسرائيلية، وهذا ما يؤشر إلى استمرار العلاقات العسكرية بين البلدين والتي تطورت إلى قيام تركيا عام ٢٠١٤ بتزويد الطيران الإسرائيلي بالوقود.
وفي هذا السياق كشف تقرير للحكومة البريطانية عن مشتري السلاح الإسرائيلي بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٢، وكانت تركيا من بين هذه الدول، كما أن “شمعيا أفيئيلي”، رئيس دائرة التعاون الأمني الخارجي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، كشف العام الفائت أن العلاقات العسكرية مع أنقرة مستمرة، وتزويدها بالسلاح الإسرائيلي لم ينقطع.
ثالثاً: سياسياً:
وإن كان توتر العلاقات السياسية منذ عام ٢٠١٠ هو الظاهر للعلن، إلا أن العلاقات بين الطرفين بقيت مستمرة بشكل سري، فلا يمكن إنشاء علاقات عسكرية والنمو بالعلاقات الاقتصادية دون وجود تنسيق، لا بل وأكثر من هذا فعلاقات اقتصادية وعسكرية كهذه كفيلة بتحسين العلاقات السياسية، وما حصل في ٢٠١٣ إذ قدم “نتنياهو” اعتذارًا هاتفيًا لـ”أردوغان” دلالةٌ على عدم تدهور العلاقات بين البلدين، فلا يمكن إصلاح علاقات سياسية متدهورة بمكالمة هاتفية، ولو كان التوتر السياسي بين الطرفين حقيقياً لما تمكن “نتنياهو” من التكلم هاتفياً بشكل مباشر مع “أردوغان”، ولكان الأمر يحتاج إلى وساطة وخاصةً بعد مضي ثلاث سنوات على حادثة السفينة.
إذاً الاعتذار ليس لإعادة العلاقات، إنما لإعادة الجهر بها، وما زيارة الوفد التركي الرسمي للكيان الإسرائيلي التي جرت منذ عدة أيام إلا خطوة على طريق الإجهار بالعلاقات، والجدير بالذكر أن اللقاءات بين الطرفين لم تنقطع طيلة الفترة الماضية، فبعضها كان سرياً كاللقاء الذي جمع مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية “دوري غولد” بنظيره التركي في روما، والذي جرى منذ بضعة أشهر، وهذا اللقاء السري الذي كشفته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية ينبئ بلقاءات كثيرة لم يتم الكشف عنها، وسرية هذه اللقاءات تشير إلى أنها تبحث قضايا أكبر وأهم من المصالحة، وهي أشبه ما تكون بلقاءات تخطيطٍ لمشاريع سياسية سرية.
التقارب التركي الإسرائيلي في فترة بعد عام ٢٠١٠ ليس جديداً ولا غريبًا، فعوامل التقارب بين الطرفين ازدادت في الفترة الأخيرة، ومنها: الموقف الموحد للكيان الإسرائيلي وتركيا من الملف السوري وضرورة التنسيق فيه، توسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية والعمل على مشروع مد أنابيب الغاز في تركيا، الروابط مع أنقرة تعتبر في غاية الأهمية للكيان الإسرائيلي بسبب موقع تركيا الاستراتيجي ومجاورتها لإيران والعراق وسوريا، رغبة المعارضة التركية وخاصة حزب الشعب الجمهوري بعودة العلاقات مع الكيان الإسرائيلي.
كل هذه المعطيات تشير إلى أن العلاقات بين تركيا والكيان الإسرائيلي لم تنقطع بعد حادثة ٢٠١٠، وكل ما كان يجري هو محاولة من “أردوغان” لعدم إغضاب الشعب التركي، فالقطيعة السياسية مع الإسرائيليين التي أظهرتها أنقرة والتي تلاها اعتذار “نتنياهو” لا تمثل إلا خطة سياسية حاول من خلالها “أردوغان” إظهار سيادة الحكومة التركية في علاقاتها السياسية، وأن الحكومة التركية تحمي مواطنيها وحتى لا يُقال عنه بأنه يبيع الدم التركي بأثمانٍ سياسية، ولكن مع الإبقاء على العلاقات مع الكيان الإسرائيلي مع حجبها خلف الستار يكون “أردوغان” قد أثبت أنه لا يرغب بعودة العلاقات مع هذا الکيان فحسب بل إن کل ما ظهر إلى العلن من خلافات وتوترات کان مسرحية شارك أردوغان في تمثيلها.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق