قراءة موضوعية في مسألة إيقاف الدول التعامل بالدولار: حاجةٌ ملحة لتغيير النظام المالي العالمي
في وقتٍ يجري الحديث فيه عن إعلان روسيا إيقافها التعامل بالدولار في معاملاتها التجارية، يتم الحديث عن آثار ذلك على الإقتصاد العالمي كون روسيا لن تكون الوحيدة خصوصاً أن الصين توافقها الرأي الى جانب عددٍ كبيرٍ من الدول. لكن ما يجب الإلتفات له هو أن إيران كانت أول من تعاطى عملياً بهذا القرار حين أوقفت التعامل بالدولار نتيجة العقوبات التي فرضتها واشنطن عليها. كما أن الدول الأوروبية دعت مؤخراً لذلك. فكيف يمكن وصف إيقاف الدول لا سيما الكبرى، تعاملها بالدولار؟ وماذا في الأسباب الى جانب التداعيات والآثار المحتملة؟
تقرير حول توجه الدول لإيقاف هيمنة الدولار على المعاملات التجارية:
أدى إطلاق مشروع البنك الآسيوي لإستثمارات البنية التحتية في آذار الماضي، لإعتراف وزير المالية الأمريكي السابق سامرز بحسب ما نقلته صحيفة “واشنطن بوست” قائلاً: “لأول مرة منذ إنشاء نظام بريتون وودز شهدنا إنشاء الصين لمؤسسة مالية كبيرة ولم تتمكن أمريكا من إقناع حلفائها التقليديين بعدم الانضمام إليها، الأمر الذي شكل فشلا في استراتيجية الولايات المتحدة وسيؤدي إلى مراجعة كاملة لسياسة السلطات الأمريكية تجاه الاقتصاد العالمي”.
وفي نفس السياق صرح البيت الأبيض مسبقاً بأنه يخشى احتياطات الصين التي تتجاوز ٣ تريليون دولار، مشيراً الى أن البنك الآسيوي لإستثمارات البنية التحتية والذي يضم ٢١ دولة، قوَّض من هيبة المجلس الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي يرى في صندوق النقد الدولي أداة للحفاظ على هيمنة الدولار في العالم.
لكن الموقف الذي اتخذته كلٌ من روسيا والصين تحديداً بعد إيران، تماشت معه الدول الأوروبية وإن لأهداف قد تختلف في تفاصيلها. ففي منتصف شهر يوليو الماضي، نقلت صحيفة الفاينشيال تايمز البريطانية، دعوة فرنسا إلي التفكير في بدائل جدية لوضع حد لهيمنة الدولار الأمريكي، وتشجيع حجم وحضور العملات الدولية الأخرى في المبادلات التجارية العالمية. في وقتٍ إرتفعت فيه الأصوات الأوروبية عموماً والفرنسية خصوصاً مطالبة بوضع حد لهيمنة العملة الأمريكية على المعاملات المالية الدولية، وذلك بعد أن فرضت واشنطن غرامة قدرها ٩ مليارات دولار على بنك “بي أن بي باريبا” الفرنسي بتهمة مخالفة القوانين الأمريكية ومساعدة دول على تفادي العقوبات الإقتصادية.
قراءة في الأسباب والآثار:
ليس صعباً معرفة الأسباب التي تؤدي بالدول اليوم للمناداة بإيقاف التعامل بالدولار، حتى وصلت الأمور الى حلفاء واشنطن. فالعارف بطبيعة الذهنية الأمريكية التي لا تحترم الحليف، يُدرك أن السبب الأساسي يعود لسياسة واشنطن التي تقوم على الهيمنة ووضع المصالح الخاصة أولاً. فكيف يمكن تبيان ذلك؟
– لقد أصبح رفض التعامل بالدولار نمطاً فكرياً لدى العديد من الدول لا سيما خصوم أمريكا، بسبب سياسة الإبتزاز التي تعتمدها واشنطن إقتصادياً ولدواعٍ سياسية. فالعقوبات على روسيا والحروب المستمرة في الشرق الأوسط كانت أحد الأسباب التي دفعت إيران أولاً ثم روسياً والصين ثانياً لإعلان إيقاف التعامل بالدولار في المعاملات التجارية. وهو ما عاد وأكد عليه الرئيس الروسي منذ أيام. فعندما فرضت واشنطن وبروكسل عقوبات صارمة على إيران في عام ٢٠١٢، إضطرت طهران لوقف التعامل بالدولار وزيادة التعامل بالعملة الوطنية. كما وأعلنت إيران في بداية ٢٠١٥ عن رفضها التعامل بالدولار بشكل رسمي. لتلحق بها روسيا والصين تدريجياً، بالإنتقال إلى المعاملات التجارية بالعملة الوطنية.
– كما أن رفض الكونغرس التصديق على إصلاحاتٍ في صندوق النقد الدولي، هو من الأمور التي ترتبط مباشرةً بالذهنية الأمريكية في إداراة مصالحها، وبالتالي تؤثر سلباً على المنظمة والمجتمع الدولي. وهو ما أكده وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن منذ أشهر، ويؤيده كل من العواصم باريس وروما وبرلين.
ولأن الأسباب لا تحتاج للكثير من النقاش، لا بد من الحديث عن الآثار والتي يجب إعطاؤها أهمية لحجم تأثيرها الكبير وهنا نقول التالي:
– هناك إرتباط وثيق بين الدولار والإقتصاد الأمريكي، إذ أن واشنطن التي تمتلك أقوى اقتصاد في العالم، وتعتمد على اقتصاد السوق الذي يقوم على أساس الإستثمار الحر والمنافسة التجارية الحرة، تمتلك ثروات كبيرة من الموارد كالنفط والغاز الطبيعي والفحم واليورانيوم والتي تعتبر من أهم منتجات أمريكا. وهي دولة تعتمد على كافة القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية والتسويقية أيضاً، مما يجعل كافة أنشطتها الإقتصادية بالعملة الأمريكية الدولار.
– لكن الخطر على أمريكا ليس فقط في هذا السياق بل لما يعرفه الخبراء الماليون والذي يتعلق بضرورة أن تُغطى العملة العالمية بقيمتها من الذهب كإحتياطي لإعطائها ما يسمى بالموثوقية. مما يعني أنه يجب أن يكون لدى واشنطن حجم إحتياطي من الذهب يساوي حجم مالها من الدولار، وهو ما لا يستطيع أحد إثباته بحسب المحللين الماليين، مما يجعل هذه المسألة تُضاف الى نقاط الضعف التي يتصف بها أقوى إقتصادٍ في العالم. لكن كيف يمكن أن تكون هيمنة الدولار على العالم نقطة قوة لواشنطن وبالتحديد بوجه المنافس الصيني؟
يقول الباحث الأمريكي الصيني الأصل “سنوج هونجبينج” في كتابه “حرب العملات” إلى أن ما جرى من أزماتٍ مالية تتعلق تحديداً يتراجع سعر الدولار وارتفاع سعر النفط والذهب، ليس إلا مؤامرة أعدتها الأدمغة المالية في واشنطن، لتقويض ما يمكن تسميته بـ “المعجزة الصينية الإقتصادية”. فقد أشار في كتابه الى أن واشنطن تتحين الفرص لخفض سعر الدولار الأمريكي إلى أدنى مستوى له، حتى تفقد الصين في ثوان معدودة كل ما تملكه من احتياطي من الدولار وهو ما يقدر بنحو ٣ تريليون دولار، في وقتٍ حذر فيه بأن الأزمة التي يتم التخطيط لها، ستكون أشد قسوة من الضربة التي تعرض لها الإقتصاد الآسيوي في تسعينات القرن الماضي. وهو ما يمكن القول أنه صحيح من الناحية الإقتصادية.
ولذلك قررت بكين التعجيل في تعزيز الرنمينبي كعملة عالمية، وبهذه الطريقة يمكن كسب شركات التصدير الصينية عملة حمراء بدلاً من العملة الخضراء، وهو ما يسمح باستثمار إيراداتها في الداخل بدلاً من إعادة تدويرها في سندات الخزانة الأمريكية.
خلاصة التحليل:
صحيحٌ أن واشنطن تحاول من خلال عملتها العالمية رهن الدول لها سياسياً ومالياً وتجارياً. لكن الواقع المالي العالمي الذي يقوم اليوم على أساس التعاطي بالدولار كعملةٍ عالمية، يحتاج لوقتٍ لإيجاد بديلٍ عنها، دون حصول إنهيارات أو ازمات مالية ستقع على الجميع وليس أمريكا فقط. وهو ما يدعم ضرورة التوجه لإيقاف التعامل بالدولار وإيجاد سلةٍ من العملات الأخرى قد تُحدث توازناً مالياً. لذلك فإن توجهات روسيا والصين تحديداً صحيحة المسار، لكن يجب الإلتفات الى آليات العمل التنفيذية.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق