رهان الدول على إضعاف الحكومات المركزية: سببٌ في انعدام الأمن والإستقرار في المنطقة
كعادتها سعت الدول الكبرى لحكم دول وشعوب المنطقة من خلال تنفيذها سياساتٍ تقسيمية. فعلى الرغم من أن المنطقة بأسرها تحفظ في تاريخها ماضياً حافلاً من الإستعمار الغربي الذي كانت بريطانيا وفرنسا أساسه، إلا أن التاريخ السياسي المعاصر لا سيما تاريخ الشرق الأوسط، لم يذكر زمناً من الإستقرار والأمن شهدته المنطقة. والسبب الرئيسي في ذلك هو الغرق في الخلافات الداخلية بين الدول بل داخل الدولة الواحدة، الى جانب الرهان على الخارج. فإلى ما، يفتقد الشرق الأوسط في سياسة الأمن القومي الخاصة به؟ ولماذا لم تشهد الحال الإقليمية عموماً والعربية خصوصاً شيئاً من الأمن والإستقرار؟
أمثلة ووقائع: الربيع العربي وترسيخ واقع إنعدام الأمن
شهدت المنطقة بأسرها حالةً من الفوضى أدت الى تغييرات في الأنظمة الحاكمة، كان لها الأثر على الأصعدة المرتبطة بالأمن القومي للدول الإقليمية وتحديداً العربية. وهنا لا نريد الغوص في تحليل نتائج وأسباب ما سُمي بالربيع العربي، إلا أننا نريد أن نسلط الضوء على أن المُخطط الأمريكي الذي كان خلال سنواته الطويلة الماضية يتمركز في منطقتنا مُعتمداً على سياساتٍ تقسيمية، هدف من خلال هذه الفوضى الخلاقة الى ترسيخ واقعٍ من اللاأمن واللاإستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وبطبيعة الحال كان للدول التي تُعتبر مهماتها تنفيذية، الدور الأبرز في تنفيذ هذا المخطط والذي أصبحت اليوم تعاني هي نفسها من نتائجه.
ومن خلال مراجعةٍ سريعة لآليات تنفيذ هذا المخطط، نجد أن إضعاف الحكومات المركزية في الدول، وتقوية حركات المعارضة لا سيما المتشددة، كان الطابع الغالب على هذه السياسات. فعلى سبيل المثال سعت الإدارة الأمريكية للإستفادة من غزوها للعراق، من أجل تأمين أرضيةٍ يمكن أن تكون أساساً في ضرب الحكومة المركزية وبنية الجيش العراقي. وهو ما حصل من خلال الإعتماد والتعاون مع بقايا النظام البعثي، والذين ساهموا بالإضافة الى المخابرات التركية والسعودية، في تأسيس نواة التطرف في العراق. كما ساهمت هذه الدول في اللعب على وتر الصراع مع الأكراد في العراق، واستغلاله سياسياً للأهداف ذاتها.
ولم يقتصر ذلك على العراق بل جرى استخدامه في العديد من الدول العربية مع إندلاع الثورات التي حملت شعارات تغييرية قادتها خلايا المخابرات الأمريكية. فقد دخلت حركات ذات أيديولوجية سلفية تتبنى أفكاراً أصولية، الحياة السياسية في العديد من الدول العربية، مثل “حزب النور” و”الأصالة” اللذين فازا بنسبة 25% من مقاعد البرلمان في مصر. لتشكل هذه الحركات خطراً على الحكومات، تمثل بإنطوائها تحت تيارات إسلامية، حيث تقوم بإستغلال المظالم المحلية وإنعدام الحريات وحالة عدم الإستقرار وضعف الحكومات المركزية، مساهمةً في خلق واقعٍ سياسيٍ جديد لم يقتصر على مصر بل ساد في العديد من الدول العربية الأخرى. ففي سوريا أيضاً، لعبت الجماعات التكفيرية المتشددة دوراً كبيراً بشكل متزايد في إشعال الأزمة السورية، لا سيما جبهة النصرة الإرهابية والتي ذاع صيتها مع بداية الأزمة. كما أن هناك العديد من الأمثلة لذلك، كالنموذج الليبي وغيره من النماذج الأخرى.
من نتائج ذلك: إضعاف أطر الدولة والحكومات المركزية
أدت هذه التوترات والتي كانت الإضطرابات السياسية والأزمات الإقتصادية سبباً لها، إلى إضعاف الحكومات المركزية واهتزاز البنى الهيكلية للدول. لتصبح النتيجة أمامنا، مشهداً لمجموعةٍ من الدول الممزقة جيوسياسياً، والفاشلة من الناحية الخدماتية. لكن الشيء المهم في هذه الظاهرة الجديدة، هو أنها أيقظت الطموحات الدفينة في الحكم الذاتي، للعديد من التيارات والمنظمات. فالأكراد على سبيل المثال أصبحوا اليوم حالةً فريدة، لسنا في صدد نقاش مشروعيتها من عدمه، لكنهم في سوريا والعراق وتركيا، يسعون لحلم الدولة الكردية. كما أن تنظيم داعش الإرهابي، كان نتيجةً لهذه الظاهرة، والتي أدت الى وصوله للإكتفاء الذاتي وقدرته على التمرد في دولٍ كانت الكبرى على الصعيد العربي لا سيما سوريا والعراق.
وهنا نقول إن ما يجري اليوم ليس صدفةً، في ظل مُخططٍ أمريكي مُعلن منذ القدم، يقوم على تفتيت المنطقة لحكمها. ولأن إضعاف الدول هو المفتاح لذلك، جرى ما جرى تحت العين الأمريكية المُخططة، واليد الخليجية المُنفذة. لنصل اليوم الى واقعٍ أقل ما يمكن وصفه بالمُفتت، دولٌ غير قادرة على الحكم، وبالتحديد عاجزة عن تأمين الأمن لمواطنيها، بسبب تفشي ظاهرة الإرهاب.
خلاصة القراءة:
إن التعاون بين الدول هو الحل الوحيد، لضمان أمن المنطقة والإقليم. لكن العديد من الدول الإقليمية وتحديداً السعودية وقطر وتركيا سعت عن سابق إصرارٍ وتصميم لإضعاف الحكومات المركزية، في سوريا والعراق على سبيل المثال، مما ساهم في انعدام الأمن. وقد تكون لهذه الدول مصالح خاصة لكنها حتماً كانت بعيدة عن مصلحة شعوب المنطقة، كما أنها لم تصب في مصلحة أنظمتها الحاكمة. لنقول إن القراءة الخاطئة للأحداث، والدخول في الحسابات الخاصة والتي لا تأخذ بعين الإعتبار مصالح الشعوب، أدت بهذه الدول للغرق في السياسة الأمريكية والرهان على الخارج، دون تحقيق أي إنجازٍ يُذكر. فيما تدفع هذه الدول اليوم، تكاليف باهظة، تتمثل بحالة إنعدام الأمن التي تسودها.
لا شك أن إضعاف الحكومات المركزية وعدم وجود آليةٍ للتعاون المشترك، يعني حاضراً المزيد من الغرق في المشاكل الداخلية، وعدم القدرة على حل الخلافات الإقليمية. كما يعني مستقبلاً، أن الأنظمة الحاكمة ستجد نفسها بعيدةً عن طموحات شعوبها، في زمن التغييرات الجذرية التي حركت وعي الأمة. لنقول إن السلاح الذي استخدمته الأنظمة لتثبيت حكمها، عن جهلٍ منها أو عن علم، سيكون السبب في القضاء عليها.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق