أمريكا أعطت الضوء الأخضر مرغمةً للتدخل العسكري الروسي في سوريا: كيف سيكون ردّ أدواتها؟
لا يزال المشهد السياسي والأمني في الشرق الأوسط يزداد تعقيداً في ظل تحول استراتيجي تشهده المنطقة وكباشٍ بين الدول الكبرى لرسم معالم ومعادلات جديدة تسعى من خلالها لبسط سيطرتها وحضورها. وقد يصعب فهم أفق الصراع الذي يحصل على أرضٍ عربيةٍ مع وجود تشابك كبير في المصالح بين المتصارعين وتبادل في الأدوار وتسويات لتقاسم النفوذ.
ولعلّ الأزمة السورية خير نموذجٍ يمكن من خلاله تحليل واقع الصراع بين روسيا وأمريكا وحلفائهما. فالتدخل العسكري الروسي في سوريا قلب المشهد الروتيني المعقد سياسياً وامنياً الذي كان سائداً قبله رأساً على عقب، ودفع المراقبين والمتابعين إلى تحليل الظروف المحيطة بهذا التحرك المفاجئ وماجرى قبله واستشراف ما سيأتي بعده. لكن هناك الكثير من المعطيات والحلقات المفقودة التي يُترك للتاريخ كشفها عن حقيقة الصراع الحاصل خاصةً في سوريا بين أن يكون التنسيق قد جرى بين أمريكا وروسيا حول خطوات التدخل العسكري الروسي أو تفرّد الأخيرة بالقرار، ولكلٍ من الرأيين تحليله ودلائله ونتائجه. فما جوهر الصراع الحاصل في سوريا وهل أنّ توافقاً حصل قبل تدخل روسيا؟ أم أنّ أمريكا أرغمت على القبول بالتدخل العسكري وإعطاء الأمر لموسكو في سوريا؟ كيف سيكون ردّ أدوات أمريكا في المنطقة عربياً وإسرائيلياً بعد شعورها المتكرر بالخيبة والخذلان من التحول الإستراتيجي الجديد؟
هناك رأي يقول بأنّ الكثير من الأحداث التي تحصل بين الدول الكبرى في صراعاتها خارج أراضيها تكون بالتوافق بينها ولو بالإجبار. فبعد أن شعرت أمريكا بالعجز عن إدارة شؤون المنطقة وتراجع نفوذها فيها وعدم قدرتها على السيطرة حتى على حلفائها، أُجبرت على قبول التدخل العسكري الروسي في سوريا، وكأنها رضخت لموازين القوى الجديدة وبدأت إستدارتها التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركية جون كيري في العام ٢٠١٣ لنظيره الروسي سيرغي لافروف، أن أميركا قرَّرت تعديل سياستها في الشرق لكن المسألة تتطلب وقتاً وقال : “إن أميركا ليست سيارة صغيرة لتستدير بسرعة بل هي شاحنة كبيرة ويلزمها بعض الوقت للإستدارة.
فالتوازنات الميدانية تفرض الإقرار للطرف المتقدم على الأرض بالسيطرة والنفوذ. وهذا ما يحصل اليوم في منطقتنا وخاصةً في الميدان السوري. فطرفيّ الصراع الأبرز أي روسيا وأمريكا يجلسان على طاولة المفاوضات مع بعضعهما ويتصارعان في الكثير من الميادين خارج أراضيهما عبر حلفائهما. وبالتالي فالطرف الذي يسيطر في الميدان له الغلبة في تنفيذ شروطه السياسية.
لكن الفرق في الصراع اليوم أنّ حلفاء أمريكا وأدواتها فقدوا الثقة بها، وباتت أولوياتهم تتعارض مع أولوياتها فميزان أمريكا لا يقيس إلا مصالحها. بينما حلفاء روسيا وعلى رأسمهم إيران على تنسيق دائم تكتيكياً واستراتيجياً. وحتى عندما تتراجع أمريكا مجبرة تكتيكياً لا تراعي مصالح حلفائها وأدواتها، والخلاف الأمريكي الإسرائيلي خير دليل على ذلك. فقد أظهرت الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو مدى الإفلاس الأمريكي والتفلت وعدم الإطمئنان الإسرائيلي، إضافة إلى التوتر الكبير والتخبط في العلاقات بينهما. لكن من قرأ بين سطور كلام نتنياهو بعد لقائه بوتين يستنتج أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي عاد بخفي حنين إلى كيانه بعد أن حاول فاشلاً الحصول على تطمينات روسية حول توريد الأسلحة إلى سوريا، لن يبقى مكتوف الأيدي أمام تعاظم النفوذ الروسي في المنطقة والتأثير المباشر الذي سيحّد من تحركها وتأثيرها في الملف السوري عسكرياً وسياسياً.
فالقصة ليست جديدة والتراجع الأمريكي في المنطقة يعود لسنوات مضت منذ الهزيمة والانسحاب من العراق، ولكن ما أظهر حقيقة الوضع الأمريكي وخيّب حلفاءها وأدواتها بدأ بعد التراجع الأمريكي عن توجيه ضربة عسكرية لسورية، والذي سبقه تهديدات من البيت الأبيض إعتقد كثيرون وقتها أنها بمثابة إعلان حرب. لكن الرئیس الأمريكي خيّب وقتها آمال كثيرين كانوا يحلمون بضرب سوريا، غير عارفين أنّ سيدّهم لم تعد يده مطلقة في المنطقة وأصبح يحسب ألف حساب قبل الإقدام على حماقة جديدة تودي به في مستقنع جديد.
وفي هذا السياق كان السفير الإسرائيلي السابق في أمريكا، مئير روزين قد صرّح وقتها “: إن الانسحاب الأمريكي من المسؤولية ومن العمل العسكري في سوريا، يدل على محدودية التأثير للولايات المتحدة في الشرق الأوسط”، مشيراً إلى أن “الرسالة التي وصلت إلى المنطقة والعالم، هي أن أمريكا لم تعد كما كانت في السابق، وهذه هي إشارة سيئة إلى ما يمكن أن يحدث هنا في المستقبل القريب”.
وأشار وقتها روزين في حديث للقناة السابعة الإسرائيلية، إن “المهم في كل هذه المسألة، أن إيران ترى اليوم أن هناك فرقاً بين الأقوال التي تصدر عن واشنطن، وبين أفعالها”، مشيراً إلى أن “ما جرى هو انتصار كبير لسوريا وإيران وروسيا، خصوصاً أن الولايات المتحدة قامت بتركيز جهودها وعرض عضلاتها العسكرية بما يشمل المدمرات وحاملة الطائرات وأعلنت أنها في صدد تنفيذ إجراءات عقابية ضد الرئيس السوري بشار الأسد، بينما أنهت المسألة في الأخير بإعطاء انطباع بأن الأسد يمكن أن يستمر في حربه وبالوسائل التقليدية، وأن الغرب لن يمانع ذلك”. وأكد روزين أن “الولايات المتحدة فقدت كل قدرة ردعها في الشرق الأوسط، أما لجهة طهران فهي إشارة بأن بإمكانها المضي قدماً في مشروع النووي، وكأن شيئاً لم يحدث”.
والحضور الروسي المتنامي في المنطقة والتدخل العسكري صورة أخرى تعكس مدى تراجع الحضور الأمريكي، فالكيان الإسرائيلي يرى أمام عينيه أنّ مصالحه ونفوذه بدأت بالتقلص ولم يرى أي تحرك من قبل حلیفه الأمریکی. فيرى المحللّون أنّ “إسرائيل” أصبحت مقتنعة بأن تنزع أشواكها بيديها دون إنتظار المنّ الأمريكي الذي انتظرته طويلاً دون جدوى.
فقد يدفع جنون الخسارة والتراجع الذي تعيشه “إسرائيل” وأدواتها العربية إلى القيام بخطوات تصعيدية في الميدان السوري أو ميادين أخرى رداً على التدخل الروسي والخذلان الأمريكي، أو قد تُجبر على الإنكفاء والتأقلم مع الواقع الجديد في ظل متغيرات دولية تتجه للرضوخ لصمود وانتصارات محور المقاومة والقبول على مضض بتنامي الحضور الروسي العسكري في المنطقة.
المصدر / الوقت