التغيُّر في الموقف التركي: صدمةٌ للدول الخليجية وبداية للحلول العملية تجاه سوريا
بعد أن كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أشد المنادين برحيل الرئيس الأسد، متماشياً مع سياسة الغرب وواشنطن، تراجع الأخير عن موقفه بعد أن فرضت روسيا بحراكها العسكري، كذلك مجريات الأحداث في الميدان السوري، معادلاتٍ جديدة. في حين كان تراجعه متزامناً مع تراجع أمريكا والدول الأوروبية. لكن تغير الموقف التركي ليس كتغير المواقف الأخرى لأسباب جيوسياسية يعرفها الجميع. مما يعني أن التغير في الموقف التركي لن يكون له الأثر على مجريات الأحداث السياسية بل سينعكس ميدانياً على الأزمة السورية؟ فكيف يمكن قراءة ذلك؟ وماذا في الدلالات؟
قراءةٌ في تغير الموقف التركي:
“بشار الأسد يمكن أن يشكل جزءاً من مرحلة انتقالية في إطار حل سياسي للأزمة في بلاده”. هكذا انقلب الموقف التركي من الرأي الأشد وضوحاً تجاه رحيل الرئيس الأسد، الى الرأي اللاحق بوجهات النظر الغربية الراضخة لبقاء النظام وإشراكه في حل الأزمة السورية. في حين يمكن القول إن لهذا التغير دولياً وإقليمياً أثراً كبيراً يصب في خانة تأكيد خسارة السياسات الأمريكية والرهان عليها.
لم يكن سلوك الرئيس التركي تجاه الأزمة السورية سلوكاً مألوفاً. بل بنظر العديد من المحللين والخبراء، فإن سلوك أردوغان الطامح لإعادة مجد الإمبراطورية العثمانية، لم يكن طبيعياً. ولعل لذلك العديد من الأسباب التي لا تختلف في جوهرها عن سياساته الداخلية. وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته من خلال مقاربة الأحداث في الداخل التركي، مع التعاطي التركي فيما يخص الأزمة السورية.
يقول الكثيرون إن أردوغان ذهب الى ما هو أبعد من الرهان على واشنطن. بل إنه أكثر من تبني ولأربع سنوات سياسة “متشددة” ضد جارته سوريا، وصلت الى درجة الخروج عن المعتاد في التعاطي الدولي في هجومه على الرئيس السوري، مع الإصرار على ضرورة رحيله في أي تسوية سياسية وترجيحه الحل العسكري لإسقاط النظام. لكن يبدو أن أردوغان إقتنع أخيراً بعد أن اقتنع أسياده في واشنطن، بأن الوضع السوري ليس كمثيله من الأوضاع في الدول العربية الأخرى التي تعيش صراع الأزمات السياسية، كليبيا أو تونس أو غيرهما من الدول الأخرى. فالدعم الدولي الخاص لدمشق وتحديداً من روسيا وإيران كما الصين، يُثبت أن لهذه الدولة ونظامها الحالي خصوصية تدخل في صلب أولويات هذه الدول النافذة. مما يُحتِّم الإنتباه لذلك، وعدم تجاهل وجهات النظر الأخرى في هذا المجال. فماذا في التحليل؟
الموقف التركي: صدمةٌ للعرب وبوابةٌ للحلول العملية
لا شك أن موقف الرئيس التركي سيكون له الأثر الكبير في مجريات الصراع على الساحة الإقليمية والدولية. وهنا لا بد من تحليل الأمور من زوايا متعددة، لذلك نقول التالي:
– إن التغيير الذي حصل على الصعيد العالمي والدولي، والذي أدى الى تغيُّر الموقف التركي تجاه وجود الرئيس الأسد، سيؤدي لنتائج ستُترجم على الصعيد العملي. وهنا لا بد من الأخذ بعين الإعتبار الدور التركي القديم من بوابة الجغرافيا السياسية لتركيا. إذ أن إقتناع أنقرة بضرورة الحل مع بقاء الأسد، لا بد أن يُترجم بمنع دخول الإرهاب من الحدود التركية وهو ما سيُوجه ضربةً كبيرة لساحة الإرهاب شمال سوريا وسيكون بمثابة ورقةٍ جديدة تخسرها التنظيمات التكفيرية ميدانياً، شرط أن يقتنع أردوغان بموقفه هذا عملياً.
– وهو الأمر الذي سينعكس حتماً على الدول الخليجية لا سيما السعودية وقطر اللتين راهنتا على الدور التركي في نجاح أهدافهما، لا سيما بسبب الجغرافيا التركية المحاذية لسوريا. مما يعني أن موقف أنقرة لن يكون له الأثر السياسي فقط، وهو ما سيُفاجئ الأنظمة العربية التي تنادي برحيل الرئيس السوري بشار الأسد، بل سيكون لذلك أثرٌ عملاتيٌ لا يصب في مصلحة أهداف هذه الأنظمة لا سيما الرياض.
– من جهةٍ ثانية لا يمكن تجاهل الخصوصية التي تحظى بها تركيا على الصعيد الإقليمي فيما يخص الأزمة السورية. ولعل الأسباب الجيوسياسية واضحة في هذا المجال. فالإرهاب الذي دعمته تركيا من أجل إسقاط النظام السوري، ارتد عليها، واليوم أصبح يعني العالم بأسره. وهو الأمر الذي لم يعد أردوغان قادراً على المضي فيه، نتيجة السعي الأوروبي الحثيث لإنهاء الأسباب الجذرية للهجرة واللجوء الى أراضيها، وفي مقدمتها الإرهاب.
– وهنا يأتي الحديث عن العرب ودورهم وماذا سيكون موقفهم من هذا التحول؟ فلقد استغلت الدول الخليجية التعنت التركي وقناعة أردوغان بالحل العسكري لإسقاط النظام. مما أغرق تركيا وحدودها بالإرهابيين الذين أخذت تصدرهم وبدعمٍ خليجيٍ ميدانيٍ وتمويليٍ الى الداخل السوري، وهو ما كان ورقةً بيد هذه الدول. أما اليوم، وبعد تغير الموقف التركي، فقد أصبح الحل العسكري تجاه سوريا من الماضي. مما يعني أن أهداف هذه الدول أصبحت من الماضي أيضاً. فكيف ستكون ردة الفعل الخليجية نتيجة هذه الصدمة؟
– كما أن الموقف التركي اليوم أصبح يتماشى مبدئياً مع الموقف الدولي لروسيا وإيران. ولعل العلاقات الجيدة التي تجمع الطرفين الإيراني والتركي يمكن أن تكون بوابةً لحلولٍ عديدة، وتعاونٍ فعال تجاه الأزمة السورية. وهنا لا بد من الأخذ بعين الإعتبار مكانة تركيا الإقليمية وإيران الدولية اليوم.
يختلف الرئيس التركي عن حلفاءه الظرفيين تحديداً قطر والسعودية. فلا مشكلة لأردوغان البراغماتي السياسية، من تغيير موقفه في حال وجد مصلحةً لتركيا في ذلك. لكن الدور الذي لعبته تركيا في تأجيج الأزمة السورية، أصبح من الماضي، إن تُرجم الموقف التركي الجديد عملياً. ليسقط رهان المعارضين للنظام السوري داخلياً وخارجياً على الدور الذي قدمه لهم النظام التركي. فيما تبقى الأمور مفتوحةً على العديد من الأسئلة. منها كيف ستترجم تركيا موقفها الجديد عملياً؟ وكيف ستكون ردة الفعل الخليجية؟ وهل ستبادل تركيا اليد الإيرانية الممدودة لها من أجل المضي قدماً نحو دورٍ فعالٍ في المنطقة؟ أسئلةٌ برسم الأيام المقبلة.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق