لماذا كل هذا الإشتياق الأمريكي لإيران؟
كثيرة هي التصريحات الأمريكية التي تنم عن إشتياق واشنطن لبناء علاقات قوّية مع طهران، إلا أن المتتبع للتصاريح الرسمية الأمريكية التي تصدر عن البيت الأبيض أو الكونغرس بشقيه (النواب والشيوخ)، يذعن أن كافّة هذه التصاريح الرنانة تأتي في إطار السياسة الأمريكية القديمة الجديدة “العصا والجزرة”.
بعد إدراك إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في النصف الثاني من ولايته الثانية فشل سياسته وأسلافه تجاه طهران المتمثلة بالمقاطعة الإقتصادية وفرض العقوبات من ناحية وتنامي دور إيران الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط من ناحية آخرى، لجأت إدارة أوباما إلى سياسة جديدة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب تتمثل بإستدراج إيران إلى طاولة المفاوضات للحصول على مكاسب جديدة فشلت في تحقيقها عبر العقوبات، وقد إستفادت واشنطن حينها من فوز الرئيس روحاني للدخول إلى طهران تحت ذريعة التواصل مع الإدارة الإيرانية الجديدة.
بعد فترة من المفاوضات الشاقّة، توصل الجانبان الإيراني والغربي لإتفاق نووي وجد فيه كلا الجانبان ضالته، مع الأخذ بعين الإعتبار قدرة الطرف المقابل، إلا أن واشنطن لم تكتف بذلك بل أعرب وزير الخارجية الأمريكي جان كيري عن أمله بأن يساهم الإتفاق النووي في التاسيس لعلاقات أفضل مع إيران. أمريكا التي رضخت لواقع إيران النووي، حاولت الحد من تطوير القدرات النووية، حتى السلمية منها، مقابل التنازل عن بعض القيود الإقتصادية المفروضة أمريكياً، إلا أنها اليوم تتحدث بلهجة تنم في ظاهرها، عن إشتياق لبناء علاقات قوية مع طهران، فما هي أهداف البيت الأبيض من الحديث عن تحسين العلاقات مع إيران؟ وهل كان الموضوع النووي يقف وراء التقارب بين البلدين في الفترة السابقة؟ اليوم، وبعد وضع الملف النووي على سكة الحل، هل إقتنعت أمريكا بضرور بناء علاقات قوية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعلى أساس الإحترام المتبادل؟
ما بعد الإتفاق النووي
لا شك في أن مرحلة ما قبل الإتفاق النووي تختلف عما بعده، حيث باتت واشنطن مجبرة على العزوف عن السمفونية السابقة حول البرنامج النووي الإيراني، إلا أن هذا الأمر لا يعني عزوفها عن سياستها الكيدية في تفسير الإتفاق النووي، أو المراوغة في رفع العقوبات تحت ذرائع مختلفة كحقوق الإنسان والصواريخ البالستية، وقد ظهر هذا الأمر جلياً قبل يومين في قاعة مجلس النواب الأمريكي بعد التصويت على مشروع قرار لدفع تعويضات للمتضررين من الإرهاب الإيراني، حسب زعمهم، وبالتالي حجز ما يعال 48 مليار دولار من أموال إيران المجمّدة والمقرر دفعها لطهران بموجب الإتفاق النووي، مما يعد خرقا لتطبيق الإتفاق. ولكن لماذا هذه التصاريح التي تدعو لبناء علاقات قويّة مع إيران؟
بقراءة معمّقة لهذه الخطابات التي تصدر عن السلطات العليا في واشنطن، بدءاً من الرئيس الأمريكي باراك أوباما مروراً بوزير الخارجية وصولاً إلى القيادات العسكرية، مع الاخذ بعين الإعتبار التصاريح التي تصدر عن الأشخاص أنفسهم وتعتبر بمثابة التهديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يتضح أن سياسة واشنطن تجاه طهران حالياً لا تخلو من أمرين:
أولاً: تحاول واشنطن العودة إلى سياسة العصا والجزرة مع طهران، بإعتبار أنها باتت تمتلك القدرة على التلويح بإعادة فرض العقوبات، ولذلك تحاول كسب بعض الأصوات في الرأي العام الإيراني والعالمي عبر هذه التصاريح. لم يكن بإستطاعة أمريكا إعتماد هذه السياسة قبل الإتفاق النووي لأنها لم تمتلك أي روقة ضغط على طهران، فقد وضعت كل بيضها في سلّة واحدة وبذلت قصارى جهدها لكسر الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلا أنها فشلت في ذلك.
ثانياً: أدركت واشنطن دور طهران الفاعل في منطقة الشرق الأوسط، لذلك تعمد بين الفينة والآخرى للحديث حول ضرورة إيجاد تنسيق جدّي مع إيران إزاء أزمات المنطقة، في هذا المجال أعرب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في تصاريح عدّة أهمية الدور الإيراني “في حل القضايا الصعبة جدا بالشرق الاوسط”، كان آخرها منذ أسبوع، قبيل اجتماعه مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما أكّد كيري أنه يرى فرصة كبيرة للعمل مع إيران بشأن سوريا واليمن. لم يعد أمام واشنطن سوى طرق أبواب طهران لإدارة منطقة الشرق الأوسط بعد عشرات السنين على تحكّمها بمصير هذه الدول، بإختصار الإدارة الأمريكية مجبرة على التعاطي مع طهران من أفغانستان إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن.
كما أخطأت واشنطن في سياسة الحظر الإقتصادي على طهران، الذي حوّله الشعب الإيراني من تهديد إلى فرصة، تخطئ أمريكا اليوم، بمحاولة إظهار مشكلتها للشعب الإيراني وشعوب المنطقة نووية بحته، لأن هذا الشعب أدرك المكر الأمريكي بعد البعد تجربة فاقت العقود الثلاث. كذلك يبدو أن وهم الإتفاق النووي طغى على العقلية الأمريكية التي تحاول النفوذ إلى الداخل الإيراني، تماماً كما تتوهم إدارة أوباما بقدرتها على إستخدام سياسة العصا والجزرة مع إيران.
المصدر / الوقت