نظرةٌ إلى الواقع الاجتماعي في مدينة الرقة السورية
في وسط الصحراء وعلى الضفة اليمنى لنهر الفرات تنام هذه المدينة بصمت، فسني الحرمان والإهمال الطويلة قد كادت تنسي هذه المدينة تاريخها العريق وعصرها الذهبي. هي مدينة الرقة السورية درة الجزيرة السورية وأكثر المحافظات السورية مظلومية وإهمالاً على الإطلاق. شكل شهر آذار عام 2013م وخروج مدينة الرقة عن سيطرة الدولة السورية بشكل كامل منعطفاً كبيراً في حياة هذه المدينة وسكانها، ليزيد الطينة بلة إعلان تنظيم داعش الإرهابي سيطرته على مدينة الرقة وتشكيل أولى ولايات دولته المزعومة فيها بعد أن تمكن من القضاء على التنظيمات الإرهابية الأخرى التي كانت تشاركه السيطرة عليها كجبهة النصرة وما يسمى الجيش الحر لينفرد التنظيم الإرهابي في حكم مدينة الرقة، ولتدخل هذه المدينة الوادعة واحداً من أكثر حقبها التاريخية سوداوية وظلامية.
تاريخ الرقة:
يعود تاريخ مدينة الرَّقة إلى عام 242 قبل الميلاد، أسسها سلوقس الأول وأطلق عليها اسم كالينيكوس نسبة له. فتحتها الجيوش الإسلامية عام 639 م وتغير اسمها إلى الرقة، والرَّقة كلمة مفردة جمعها الرَّقاق، وهي كلُّ أَرضٍ إلى جنب واد ينبسط الماء عليها أيام المدِّ ثم ينحسر عنها ويَنْضُبُ، أي أن اسم هذه المدينة مشتق من مجاورتها لنهر الفرات الذي كان يفيض ويغمر أراضيها ثم ينحسر عنها الأمر الذي أكسب أراضي هذه المدينة خصوبة قل نظيرها في بلاد الشام. اتخذ الخليفة العباسي هارون الرشيد من الرقة عاصمة له بين عامي 796 و808 وتحولت في عهده إلى مركز إشعاع علمي وثقافي وحضاري. دمرها المغول بقيادة هولاكو عام 1258 كما فعلوا ببغداد ودمشق. تضم الرقة بين جنباتها إرثاً حضارياً وتاريخياً عظيماً فإضافة إلى متحفها الشهير والذي كان يضم مئات القطع الأثرية الغارقة في القدم، يعتبر جامع المنصور، قصر البنات، قصر هرقلة، قلعة جعبر، الرصافة، الجامع العتيق وتل حمام التركمان زلبا أهم المعالم التاريخية والحضارية التي تميزها وتذكرنا بأيامها الذهبية الخالية.
الوضع الاجتماعي والسكاني:
تبلغ مساحة محافظة الرقة 19660 كم2، وعدد سكانها وفق إحصائيات عام 2010 نحو 919 ألف نسمة، بمعدل كثافة يبلغ 47 نسمة/ كم2، ينتمي سكان الرقة إلى مجموعة من القبائل العربية أهمها البوجابر السبخة، الهنادة، العفادلة وعنزة، وبشكل عام تتميز هذه المدينة بعاداتها العربية العشائرية العريقة، يعرف سكان الرقة بالكرم وحسن الأخلاق والالتزام الديني والأخلاقي، يتكلمون اللغة العربية بلهجة محلية تعرف باللهجة الرقاوية وهي لهجة بدوية تأثرت بمعظم اللهجات المجاورة كاللهجة الحلبية والشامية والعراقية وتتميز ببعض المفردات الخاصة بها والتي تميزها عن بقية اللهجات السورية. خلف إهمال الحكومات السورية المتعاقبة للمنطقة الشرقية بشكل عام وللرقة على وجه الخصوص واقعاً تعليمياً وثقافياً سيئاً، حيث يعتبر أبناء محافظة الرقة أقل طبقات المجتمع السوري تعليماً وأكثرهم أمية، هذا الأمر انعكس سلباً على الواقع السياسي والاجتماعي للمحافظة ومهد الطريق أمام الأفكار المتطرفة والتكفيرية للدخول إلى فكر أبناء هذه المحافظة الفقيرة، حيث تمكنت التنظيمات الإرهابية المتطرفة كجبهة النصرة وتنظيم داعش الإرهابيين من بث أفكارهم وعقائدهم المتطرفة بين أبناء المجتمع الرقاوي واستطاعت عبر أساليبها الترغيبية والترهيبية جذب العديد من أبناء الرقة إلى صفوفها.
ولكن ماذا حل بالمجتمع الرقاوي بعد أن أضحى تحت حكم تنظيم داعش الإرهابي:
خلَّف دخول تنظيم داعش الإرهابي إلى محافظة الرقة واتخاذه منها عاصمة لدولته المزعومة آثاراً اجتماعية ونفسية غاية في القسوة والسوء يمكننا تلخيصها في النقاط التالية.
1- الواقع التعليمي: منذ سيطرته على المحافظة مارس تنظيم داعش الإرهابي الإرهاب في حق الأساتذة والمعلمين والطلاب على حد سواء، فإضافة إلى قتله العديد من الأساتذة والطلبة الجامعيين، قام التنظيم الإرهابي بمنع دراسة بعض المواد كالكيمياء والفيزياء والفلسفة باعتبارها علوماً وضعية، كما عمد التنظيم إلى طباعة مناهج تدريسية جديدة من شأنها تكريس الأفكار المتطرفة والتكفيرية في ذهن أطفال الرقة.
2- حقوق المرأة: تفتقد المرأة لجميع حقوق المواطنة في دولة داعش، فهي أشبه بالسلعة التي تباع وتشترى في أسواق النخاسة التي أنشأها لبيع سباياه، ليس من حقها السفر ولا العمل ولا التعلم، كما يمنع عليها الخروج سافرة الوجه من دون نقاب.
3- رعبٌ وخوفٌ: عمد داعش إلى ممارسة أفظع الجرائم بما فيها قطع الرؤوس والأطراف في الساحات العامة وعلى مرأى العامة؛ سعياً منه إلى نشر ثقافة الرعب والخوف في قلوب الناس، ولمنع أحد من معارضته أو التفكير في مقاومة سياساته الهمجية.
4- الطفولة: عمل تنظيم داعش على إنشاء ما يسميه “أشبال الخلافة” عبر تدريبه الأطفال ضمن معسكرات خاصة أعدها لهم، لينضموا فيما بعد إلى صفوف التنظيم الإرهابي وليمارسوا في حق الإنسانية أبشع الجرائم والانتهاكات، كان آخرها ذبح جندي سوري على يد طفل من هؤلاء الأطفال نشر داعش فيديو إعدامه متوعداً العالم بمزيد من هؤلاء “الأشبال قاطعي الرؤوس.”
5- تعذيبٌ وإهانات: اعتاد سكان الرقة على مشاهدة أناس يجلدون في الساحات العامة بحجة مخالفتهم “للأوامر الشرعية”، أو رؤية رجل مكبل إلى جانب عمود الإنارة وآخر مسجون في قفص في قارعة الطريق. هذه الممارسات الوحشية والتي هي أقرب ما تكون إلى ممارسات العصور الوسطى يقوم بها داعش يومياً في حق سكان المناطق الخاضعة لسيطرته والتي أضحت جزءاً لا يتجزء من ذاكرة الناس وحياتهم اليومية.
6- تدمير للتاريخ والمدنية: عمد تنظيم داعش الإرهابي إلى تدمير جميع معالم الآثار والمدنية التي كانت تعج بها الرقة، حيث قام التنظيم بتدمير الآثار ونهب المتاحف وبيع آثارها في الأسواق العالمية لتمويل هجماته الإرهابية، كما قام بتدمير جميع الأضرحة الدينية بحجة الكفر والشرك بالله، كقيامه بتدمير مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رض).
7- تمزيق المجتمع: قسم داعش الناس في الرقة إلى موال ومعارض، فكل من يؤيد الدولة والجيش السوري هو “كافر مارق” حل ذبحه وفق عقيدة التنظيم المتطرفة، الأمر الذي دفع بمعظم أهالي المدينة إلى ترك مدينتهم والفرار بحياتهم إلى المناطق الخاضعة للدولة السورية أو إلى البلدان المجاورة.
8- الأقليات الدينية والمذهبية: قام تنظيم داعش بقتل كل من تطاله يده من أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى، كقيامه بقتل أبناء قرية حطلة قتلاً عاماً بتهمة انتمائهم إلى المذهب الشيعي، أما المسيحيون في الرقة فمن بقي منهم ضمن المدينة يعاني اليوم من اضطهاد لا مثيل له، حيث فرض التنظيم الإرهابي على المسيحيين الجزية لقاء الحفاظ على أرواحهم، فيما يتوجب على نسائهم ارتداء النقاب واللباس الذي فرضه داعش على سائر النساء في المحافظة.
9- وحشيةٌ وعنف: خلفت سيطرة داعش على الرقة وممارساته الإرهابية في حق السكان والمشاهد الدموية وثقافة التطرف والتكفير التي عمل التنظيم على نشرها منذ اللحظات الأولى لدخوله المحافظة، خلفت بين الناس وحشية وعنفاً وحقداً لا مثيل لهم، ولربما يكون مشهد إعدام ثلاثة جنود سوريين على أيدي سكان الرقة “دهساً تحت الأقدام” بعد أن قامت محكمة داعش بالحكم عليهم بالإعدام بتهمة الإنتماء للجيش السوري وللمذهب العلوي، لربما يكون هذا المشهد الوحشي دليلاً على نجاح هذا التنظيم في نشر ثقافته الوحشية والهمجية بين قسم من أبناء الرقة.
المصدر / الوقت