التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, ديسمبر 22, 2024

امطار ليست في صالح الشعراء ! 

عبدالرضا الساعدي
في بعض طقوس الماضي المتلاشية ، كنا ننتظر المطر ونبتهج ونخرج في حضرته ، نتجول مستمتعين كأطفال يلهون بأراجيح هذا القطر السماوي الكريم، لم نكن نشعر بالخوف والبؤس والخطر ، رغم أننا كشعب والبلد ، في آن معا ، لم نكن في أحسن حال أبدا ، سياسيا واقتصاديا وحتى أمنياً! لأن الفقر والشعور بالرقيب الأمني يداهمنا في كل مكان ، لا لشيء سوى أنه زمن مغلق ومحكوم بالخوف وبالممنوعات السلطوية الكثيرة .. ولهذا كان المطر يمثل فسحة لنا ، للحرية والبلل الرومانسي اللذيذ المطعم بالشجن ، لأننا كنا نحلم بيوم آخر ننجو فيه من قيود الذل والعبودية السابقة ، وننعم بالخلاص والانطلاق أو الهروب من ذاك الجحيم .. فكان المطر بحباته النازلة من رحمة السماء تمنحنا كل هذا الإحساس بالوهم والأمل والحلم.
كان يبدو لنا المطر بطعم آخر في ذاكرتنا الطرية ، وكنا نراقبه لحظة بلحظة كما لو أننا نراه لأول مرة ، نراقبه وهو ينقر بإيقاعات متباينة ، مرة تتصاعد وأخرى تهبط ، سطوح أوراق الأشجار في الحدائق والسطوح المعدنية والخشبية للأبواب والمحال في الأسواق والسيارات وحتى مظلات بعض المارة الذين يحتمون تحتها وهم ذاهبين إلى الدوائر أو المدارس أو للتنزه تحته أيضا ..ليشترك مع ذلك كله (نشيج المزاريب) المنهمرة من سطوح بيوتنا الواطئة في الغالب ، فنستذكر قصيدة ( أنشودة المطر ) للراحل بدر شاكر السياب ..ونعيش طقوسها الشعرية في دواخلنا مع الشاعر الذي لم يكن يظن في يوم من الأيام ، أن هذا المطر الذي تغنى بأسراره وشجونه يوما سيغير من هيأته يوما ويكون ذا إيقاع لا يتناسب وحال الشعراء اليوم ، الذين وجدوا أنفسهم يتعاملون مع كائن بملامح غريبة يداهم بيوتهم فجأة ويقتحم خلوتهم وهدوءهم وأجواءهم فيقلبها رأسا على عقب ..
لكنه يبقى مطراً طيبا وكريما في النهاية ولا ذنب له فيما جرى ، إنما ذنبنا نحن الجميع الذين لم نراعِ مواسم قدومه ومزاجه المتقلب ، كما لم نحسن استقباله والتعامل معه وأهملنا كثيرا متطلباته ومتغيراته على مر السنين .وحين نكون مستعدين لضيافته تماما في كل الأحوال والمتغيرات فلن يبخل علينا أبدا ، وستعود إيقاعات ذلك المطر تتناغم مع بعضها ضمن هذا الكرنفال الرباني الجميل ، لنعود ثانية إلى أراجيح طفولتنا تلك وهي تردد أنشودة جديدة للمطر!.

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق