التحديث الاخير بتاريخ|السبت, نوفمبر 16, 2024

عن العيش في ظل “داعش”..الرقّة نموذجاً (الجزء الثاني) 

كيف يعيش سكّان الرقّة اليوم؟ ما هي نقاط القوّة لتنظيم داعش الإرهابي، ما هي نقاط الضعف؟ وما مدى ديمومته في عاصمة “الخلافة”؟

الوقت- بعد أن تناولنا في الجزء الأول، التغيرات التي شهدتها الساحة الرقاوية بعد إندلاع الأزمة السورية، نطرح في الجزء الثاني واقع سلطة الأمر الواقع في “المدينة الجهادية”، إضافةً إلى سرد جملة من تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الرقاوي، مع التطرق إلى نقاط القوّة والضعف للتنظيم الإرهابي في المدينة.

الواقع الإجتماعي
لا تزال الحياة مستمرّة خلف جدران سلطة الأمر الواقع في مدينة الرقة التي تبقى رهن موقف العشائر التي تشكّل حوالي الـ90 بالمئة من نسبة السكان. لذلك عمد التنظيم الإرهابي الذي ينظر إلى العشائر عموما على أنها مشروع صحوات تهدد وجوده، ويتعامل معها بحذر، عمد إلى إستخدام عنوانين رئيسيين لكسب عشائر المدينة. الأول، السلطة والقوة والتخويف عبر الذبح والقتل بإعتباره القوّة الوحيدة في المدينة، الأمر الذي دفع بالعديد من العشائر إلى اتقاء شر التنظيم عبر مبايعته. والثاني، قدرة التنظيم المالية على تأمين بعض المتطلبات للعشائر وشيوخها ما يجعل مبايعتها أكثر ربحية حيث إستغل داعش الواقع المعيشي الصعب والعوز الإقتصادي لكسب العشائر وأبنائها، هنا يروي أحد نشطاء الرقة: شيوخ العشائر مالت نحو الأقوى فلو كانت النصرة أقوى في المدينة لبايعوها ولو كان لواء التوحيد كذلك ولو كانت الدولة السورية أيضاً.. هم هكذا يتبعون الأقوى.

بالفعل نجح هذا التنظيم سريعاً في الحصول على بيعة العديد من العشائر، فمبايعة أفواج من شباب عشيرة البريج للتنظيم، كانت بداية لبيعة العشائر الواحدة تلو الأخرى ابتداءً من البرَيج مروراً بالعجيل، والبوجابر، والسبخة، والعفادلة، والبوعساف، والهنادة، والشبل، والسخاني، والحويوات، وزورشمر، إلا أن مبايعة العشيرة لا تعني أبداً أنها بالكامل من رعايا تنظيم داعش الإرهابي (أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة ORB الدولية ونشرته الـBBC، أن 70 في المئة من سكان الرقة، يعتقدون أن لداعش تأثيراً إيجابياً على المدينة، إلا أنه لا يمكن التعويل كثيراً على هذا الإحصاء بإعتباره جرى في ظل الحكم الداعشي، حتى أن الفريق حصل على إذن مسبق من أمراء المناطق في الرقة قبل إجراء الإحصاء).

في الواقع الإجتماعي، يُحظر وفق قوانين “الدولة” على الرجل التدخين أو لبس قمصان عليها صور، ويجب إغلاق المحلات في أوقات الصلاة، كذلك على المرأة الالتزام بالنقاب، ويجب أن تعمل النساء في محلات بيع الملابس المخصصة للإناث، ومنذ عام 2014 تمنع المرأة من الخروج بدون محرم. ومن أجل ذلك شكل التنظيم قوة الحسبة التي تراقب تصرفات الرجال، وفرقة الخنساء لمراقبة النساء.

من الناحية الخدماتيّة، لا شيئ ثابت لدى التنظيم الذي يتعاطى بمزاجيّة، ففي بعض الأيام يتوفر الماء والكهرباء حوالي الـ14 ساعة يومياً، وفي بعض الأحيان ساعتين فقط، على سبيل المثال، قطع “داعش” اتصالات الهواتف الأرضية في مدينة الرقة، وأجبر المواطنين على دفع مبلغ 1000 ليرة لإعادة تشغيلها. وأما بالنسبة لفرص العمل، فيوفّر “الجهاد” فرص عمل كثيرة لأبناء الرقّة، إلا أن الكثير من شباب المدينة نجحوا في السفر إلى خارج أرض “الخلافة” خشية الموت المحتوم.

إن حملة “الرقّة تذبح بصمت”، توصّف الواقع الإجتماعي لأبناء المدينة الذين لا حول لهم ولا قوّة، بخلاف المقاتل الأجنبي، فيوضح أحد الناشطين المناهضين لداعش في الرقّة: “الناس في الرقة غاضبون جدًا. أتى مهاجرون كثر وانضمّوا إلى داعش: أمريكيون، وبريطانيون، وألمان وأوروبيون بشكل أساسي، كما أتوا أيضًا من كافة أنحاء العالم، وهم يحصلون على معاملة خاصّة، فالتنظيم يقوم بتدليلهم”، ففي “أرض الخلافة”، يحظى “المهاجرون” أو المقاتلون الأجانب بمعاملة متميزة، كما “يحصلون على أفضل المنازل والسيارات في حين يدفع المحليون الضرائب”.

كذلك عمد التنظيم مؤخراً إلى نقل العديد من رجاله الى العراق من اجل بسط نفوذه هناك بينما قام بالاعتماد على العراقيين بمناطق سوريا وكذلك من اصحاب الجنسيات الأُخرى كنوع من عدم الابقاء على ابن المنطقة في منطقته كتكتيك يتبعه التنظيم لكي لا تكون هنالك أي نوع من الرحمة في القرارات التي يتخذها التنظيم تجاه المدنيين .

في المقابل، توضح بعض التقارير الواردة من “أرض الخلافة” أن من يلتزم بقوانين ما يسمى بـ “الدولة الإسلامية” يعيش بشكل طبيعي، ويستفيد من خدماتها، هذا ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن أبي إبراهيم الرقاوي، وهو شاب عشريني وطالب سابق في كلية الطب: “إذا تقيدت بقوانين داعش ومشيت وجهك إلى الأرض، فلن يتعرض لك أحد”.

كذلك يحاول داعش كسب ودّ الناس عبر ظهوره بمظهر المراعي للأوضاع المعيشية، إذ إنه حدّد الأسعار، ودعا أصحاب المحال التجارية لوضع أسعار بضائعهم بشكل واضح وباللغة العربية، مع مراعاة أن تكون الأرباح معتدلة”، وبالتالي “نجح التنظيم في تأمين إستقرار الرقّة الذي فقدناه إثر إنسحاب الجيش وسيطرة فصائل مسلحة أخرى كجبهة النصرة وغيرها”، وفق أحد الرقاويين.

نقاط القوّة
لا شك في أن هناك جملة من عوامل القوّة، ساعدت تنظيم داعش في بسط سيطرته على مدينة الرقّة، أبرزها:

الموقع الجغرافي: إن البعد الجغرافي لمدينة الرقّة عن المدن الرئيسية، وبالتالي عدم أهميتها الإستراتيجية للجيش السوري الذي تخلى عنها لصالح مدن آخر كحلب، ساهم في بسط تنظيم داعش الإرهابي لسلطته على المدينة. هذا الأمر تسبّب ببقاء الرقّة عاصمة “الخلافة” رغم أن عدد السكان يقارب الـ300 ألف نسمة فقط، في حين أن الموصل التي يعيش فيها أكثر من مليون نسمة لم تصبح كذلك، بسبب التهديدات التي يواجهها التنظيم في العراق. بعبارة أخرى، إن بعد الرقّة عن خطوط القتال وقربها من الحدود مع العراق منحت داعش فرصة لإعلانها عاصمة للخلافة المزعومة.

القبائل والعشائر: إن نجاح التنظيم الإرهابي في كسب القبائل والعشائر التي غالباً ما تتحالف مع الطرف الأقوى سعياً إلى حماية نفسها، ساهم في تعزيز حكمه داخل الرقّة، وهكذا، حين سطع نجم تنظيم داعش الإرهابي، اعتبرته القبائل أقوى من الدولة السورية وغيّرت ولاءاتها تبعاً لذلك. وإن ما حصل مع عشيرة الشعيطات التي تلقت الضربة القاسمة على يد داعش عندما خسرت حوالي الـ700 من أبنائها عزّز من موقع التنظيم، ودفع بالعديد من القبائل للمبايعة خشية أن تُترك لقمة سائغة ينهشها التنظيم كأبناء الشعيطات.

الموارد البشرية: يشكّل عامل “الموارد البشرية” الضخمة أحد أبرز نقاط القوّة للتنظيم الإرهابي، فبالإضافة لآلاف المقاتلين الأجانب في الرقّة (يقدّر عدد المقاتلين الأجانب في سوريا ما بين 20 و30 ألف موزعين على كافّة الفصائل الإرهابية المسلّحة، جلّهم في صفوف داعش)، يسعى التنظيم إلى جذب الأطفال إلى مخيّمات خاصّة مقابل راتب شهري، أي يعيد داعش تجربة المدارس الدينية في باكستان وأفغانستان لغسل أدمغة الأطفال. كذلك بدأ داعش في الآونة الأخيرة بفرض عدّة قرارات على سكّان الرقّة، أبرزها التجنيد الإجباري، على غرار الخلافة العثمانية، حيث طالب أبناء الريف الشمالي، ممن تتجاوز أعمارهم الـ 14 عاماً بالتوجه إلى مقرات “الشرطة الإسلامية” لتسجيل أسمائهم وبياناتهم سعياً منه لتجنيدهم، وذلك بعد الخسائر الكبرى التي وقعت في صفوفه في الآونة الأخيرة.

الموارد الإقتصادية: يشكّل العامل الإقتصادي، إضافةً إلى “جهاد النكاح” عاملاً رئيسياً في تشغيل مقاتلي التنظيم الذي يعد واحداً من أغنى التنظيمات الإرهابية في العالم حالياً، بل أغناها في تاريخ الحركات الإرهابية، وبخاصة بعد سيطرته على مدينة الموصل العراقية. حيث يسيطر داعش، وفق محللين، على ثلثي النفط السوري، والذي يقدر بـ 400 ألف برميل يومياً، كما تعد الضرائب التي يفرضها التنظيم على المدنيين في مناطق سيطرته تحت اسم “الزكاة”، احدى مصادر تمويله المحلية. كذلك، يعتمد التنظيم بشكل فرعي على الغنائم، والتي تعد مصادر ثابتة، إلى جانب الممتلكات التي يقوم ببيعها بحجة “ردة أصحابها”، كتلك التي استولى عليها من قرى الشعيطات في دير الزور، بحجة قتال أهلها للتنظيم، إضافة إلى المخالفات المرورية والشرعية.

العقاب العلني: إن سياسة العقاب العلني، الذي أمعن “داعش” في تطبيقها داخل مدينة الرقّة كعرض الرؤوس المقطوعة والأجساد المصلوبة، أجبرت الناس على تجنّب عناصر التنظيم، بل في أحيان كثيرة، هناك من يتملق التنظيم وعناصره، للحفاظ على ما تبقى من عمره.

العامل المذهبي: جعل التنظيم لنفسه هيئة المدافع عن حقوق السنة في سوريا والعراق، لذلك أصبح داعش وبشكل متزايد خياراً لبعض السنة الذين لا يريدون التصالح مع النظام في سوريا، رغم أن أغلب ضحايا التنظيم في الرقّة هم من أهل السنة. هذا العامل رغم بروزه في الأيام الأولى لإحتلال التنظيم للرقة، إلا أنه مع مرور الوقت تبيّن للجميع عدم القدرة على العيش مع داعش، فـ”نار النظام، أهون من جنّة داعش”، وفق رجل خمسيني في الرقّة.

نقاط الضعف
رغم وجود العديد من نقاط القوّة التي يحاول البعض إخفائها، إلا أن هناك جملة من نقاط الضعف تهدّد بقاء داعش في الرقّة، أبرزها:

العشائر والقبائل: رغم أنها أحد أبرز نقاط القوّة إلا أنها تشكّل لاحقاً أحد أبرز نقاط الضعف، لأنها لن تتوانى عن بيع داعش في حين وجدت البديل المناسب، خاصةً أن هذه المدينة لم يكن فيها نشاط إسلامي بارز، بخلاف المدن الأخرى في غرب سوريا، مثل حلب وحماة. فلو إقترب الجيش السوري بمؤازرة الحلفاء إلى مدينة الرقّة، ستسارع القبائل إلى ترك التنظيم مع رجحان كفّة الطرف المقابل.

الوضع الإقتصادي: يعيش معظم أهالي الرقة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية سيئة، إذ يعمل معظمهم في الزراعة، التي تضررت بشكل كبير جرّاء خروج مساحات واسعة من الأراضي من دائرة الإنتاج، حيث يعتبر القمح والقطن المحصولين الرئيسيين في المحافظة (إنتاج الرقة من القطن عام 2011 وصل إلى 120 ألف طن، في حين من المتوقع هذا العام ألا يتعدى سقف العشرين ألف طن، كما أن إنتاج القمح في المدينة وصل إلى النصف حالياً مقارنة مع العام2013). ورغم ما يروّج له من تقديم المساعدات للناس في الرقّة، إلا أن هذا الأمر وبجزئه الأكبر يختص بالمقاتل الأجنبي. فلا يتوانى التنظيم عن المطالبة “بالتبرّع الإجباري” بالمال والدماء عند حصول أي خلل في إحدى الجبهات، سواء في سوريا أو العراق. في الواقع، إن الفقر والحاجة في الرقّة في ظل داعش فاق الأيام السابقة بدرجات متقدّمة بسبب سياسة التنظيم الرامية إلى تجويع المدنيين لكسبهم في صفوفه تحت ضغط البطون الخاوية، فالرجال بهدف القتال في صفوف التنظيم، والنساء لتزويجهن للمقاتلين الأجانب.

أعداء بالجملة: لم يترك داعش صديقاً له في سوريا والعالم، ما قد يؤثر بشكل كبير على وضعه في المدينة، فإضافة إلى الطيران الروسي، والتحالف الدولي، والجبهات الكردية، تستعد ما تسمى بـ”جبهة ثوار الرقّة” المعارضة لمهاجمة التنظيم، كما أن الجيش السوري في حال سيطرته على المدن الرئيسية سيولي الرقّة أهمية أكبر. هنا لا يجب التغافل عن الخلافات العميقة التي وصلت إلى حد التصفيات بين قيادات داعش، فقد أكد أبو وليد التونسي، أحد المنشقين عن داعش، قبل أيام “وجود خلافات كبيرة بين أبو لقمان وهو والي الرقة وأبو محمد العدناني المتحدث بإسم التنظيم حول تسيير شؤون التنظيم في سوريا، الأمر الذي أدّى إلى إنقسام التنظيم بين موالين لأبي لقمان وآخرين يتبعون العدناني في ظل كراهية شديدة من المهاجرين لأبي لقمان الذين يعتمد على الأمنيين بشكل رئيسي”.

الرقّة إلى أين؟
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هو مدى قدرة داعش على البقاء في ظل تمسّكه بمدينة لا حول لسكانها ولا قوة، بإعتبار أن داعش لم يستطع التأقلم مع بقية التنظيمات الإرهابية المماثلة فكيف الحال مع الناس!
في حال عدم بروز أي عامل خارجي مساعد، من المرجح أن يبقى أعضاء التنظيم يردّدون عبارة “باقية وتتمدّد” على مسامع أهل الرقّة لعشرات السنين، إلا أن دخول عامل خارجي، سيضعضع التنظيم في العاصمة نظراً لهشاشته، وسيكون لأهل المدينة دور فاعل في القضاء على داعش. فالإمبراطوريات الدكتاتورية تتهاوى بسرعة قياسية في حال وجود أرضية مخالفة، كما هو الحال في الرقّة، إلا أن الأمر بحاجة إلى دور خارجي مساعد.
المصدر / الوقت

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق