لماذا أُستهدفت فرنسا دون غيرها من الدول الأوروبية، وفي هذا الوقت بالذات؟!
شهدته فرنسا من هجمات إرهابية متزامنة قبل عدّة أيام والتي أودت بحياة العشرات من المدنيين وأصابت مئات آخرين، إستأثر باهتمام المتابعين لشؤون القارة الأوروبية لاسيما ما يتعلق بموضوع الإرهاب، وأثار في الوقت نفسه جملة من التساؤلات بينها لماذا أُستهدفت فرنسا في هذه الهجمات دون غيرها من الدول الأوروبية، ولماذا في هذا الوقت بالذات، وما هي تداعيات هذه الهجمات على جهود مكافحة الإرهاب على المستووين الاقليمي والدولي؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تضعنا أمام احتمالات وسيناريوهات مختلفة، أولها أن جهاز الأمن الفرنسي ضعيف ولا يتمكن من حماية الفرنسيين من خطر الإرهاب رغم أن محاربته باتت من أولويات كافة دول العالم. أمّا السيناريو الثاني والذي لايقل أهمية عن إفتراض السيناريو الأول هو إمكانية أن تكون الاستخبارات الفرنسية مخترقة من قبل عناصر موالية لجهات إرهابية مزروعة داخل هذه الاستخبارات، وهو احتمال منطقي إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الهجمات ونوعيتها والتي تعد الأعنف في تاريخ فرنسا، إذ لا يمكن أن تنفذ بهذا الشكل إلاّ إذا كانت هناك أيادي خفية في مراكز حساسة من أمن الدولة.
الاحتمال الثالث هو أن تكون الحكومة الفرنسية قد ارتكبت خطأً فادحاً بعدم إعارة الاهتمام الكافي لمحاربة الإرهاب في بلادها بدليل أنها تلقت قبل يوم من لقاء المنتخبين الألماني والفرنسي إنذاراً يشير الى وجود قنبلة قرب الملعب، وهذا يدل على أن الأجهزة الأمنية الفرنسية كانت على دراية بالتهديدات الإرهابية لكنها لم تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية وضمان أمن المواطنين.
وثمة من يلقي باللوم على أجهزة الاستخبارات الفرنسية لتقصيرها في التعاطي مع مهددات الأمن الداخلي رغم تنامي تيارات وأفكار وجماعات مؤيدة للإرهاب في عموم القارة الأوروبية، فيما حمّل البعض السلطات الفرنسية مسؤولية تجاهل حقوق الجاليات التي تعيش في فرنسا والتي تعاني صنوفاً من التهميش الاقتصادي والاجتماعي تتعلق بالإندماج والتمييز العنصري والبطالة وغياب العدالة.
وهناك من يتساءل: هل استغل تنظيم “داعش” الذي أعلن مسؤوليته عن الهجمات أزمة اللاجئين التي تشهدها أوروبا لتنفيذ عملياته، خاصة بعد الصور التي تداولتها بعض وسائل الإعلام عن عناصر إرهابية تواجدوا مؤخراً في بلدان أوروبية كلاجئين؟
الكثير من المراقبين أجاب عن هذا التساؤل بأن ملابسات الهجمات والمعطيات المتوفرة عن الملامح الرئيسية لما حدث في فرنسا تشير الى أن “داعش” قد إستغل بالفعل هذه الأزمة، مستغفلاً الشباب الذي يعاني من البطالة لتحريضهم على القيام بعمليات إرهابية في إطار عملية غسل أدمغة خطيرة للغاية.
وسبب ترجيح هذا الاحتمال يكمن بوجود بيئة مناسبة لتجنيد عناصر إرهابية من الجاليات الكبيرة المقيمة بفرنسا، بالاضافة الى أن موقع فرنسا الجغرافي في قلب أوروبا الغربية وإمكانية التنقل بسهولة بينها وبين الدول المجاورة، لعب هو الآخر دوراً مهماً في اختيارها لتكون هدفاً لأكبر عمليات إرهابية تشهدها الدول الغربية عموماً وأوروبا على وجه الخصوص خلال عقود.
ويعتقد معظم المتابعين أن الجماعات الإرهابية سعت من خلال تنفيذ هذه الهجمات إلى تحويل فرنسا إلى ساحة حرب بإعتبارها تأوي أكبر الجاليات المسلمة في أوروبا. ومن المؤكد أن هذه الجاليات باتت تدرك خطورة الموقف وتداعياته السلبية والتي قد تؤول الى تشديد الخناق عليها ليس في فرنسا فحسب؛ بل في عموم القارة الأوروبية لاسيما من الناحية الأمنية.
ومع إدراكنا لحالة الصدمة التي يعيشها الكثيرون من شدة هول ما حدث في باريس، نعتقد أن على السلطات الفرنسية أن تفكر بالأسباب التي تقف وراء هذه الهجمات وتشخص الوضع في حقيقته منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه الإرهاب يضرب الدول الأخرى سيما في الشرق الاوسط وفي سوريا والعراق على وجه التحديد.
وبعد هجمات باريس يتوقع معظم المراقبين أن تتغير سياسة فرنسا تجاه قضايا المنطقة لاسيما ما يتعلق بالمحادثات المتعلقة بحل الأزمة السورية والكف عن لعب دور المشاكس والمتماهي مع موقف المحور التركي – السعودي – القطري حيال هذه الأزمة.
ومن يتابع الجدل الدائر بين النخب السياسية والثقافية الفرنسية المؤثرة، لن يجد صعوبة في إدراك حقيقة التحولات المرتقبة في أداء السياسة الخارجية لهذا البلد. ولن يكون مستبعداً بعد الآن أن نشهد انفتاحاً فرنسياً على دول المنطقة المؤثرة لاسيما روسيا وإيران وسوريا للتنسيق معها وجمع المعلومات حول الجماعات الإرهابية. ولكن المهم أن تلتفت باريس وتحذر من بعض حلفائها الذين أصبحوا يشكلون عبئاً عليها، ويتعين عليها في الوقت نفسه الكف عن سياسة الكيل بمكياليين فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الانسان، فهذه الأمور مطلوبة في كل بقاع الأرض وليس في منطقة دون غيرها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استمرار اعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع الإرهاب، وتغليب منظومة المصالح الاقتصادية والتجارية والنفطية، على القيم والمبادئ الإنسانية التي أكدت عليها الشرائع السماوية وأقرتها القوانين الدولية.
أخيراً يجب القول ان إرتدادات هجمات الجمعة الدامية في باريس ستضرب بقوة في عمق السياسات الأمنية الداخلية الفرنسية، وستطال على الأرجح السياسة الخارجية في مفاصلها الرئيسية والتي يعتقد الكثيرون أنها تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في تحويل البلاد إلى ساحة مفتوحة لنشاط الإرهابيين الذي وجدوا فيها خاصرة رخوة لتنفيذ مخططاتهم وتحقيق مآربهم عبر خلاياهم اليقظة والنائمة في العاصمة وغيرها على حد سواء.
المصدر / الوقت