على ماذا يعوّل أكراد سوريا لإقامة الحكم الذاتي؟! (الجزء الثاني)
جرى الحديث في الجزء الأول عن مساعي الأكراد في سوريا لإقامة حكم ذاتي في مناطقهم من حيث القدرات والامكانات التي تؤهلهم لذلك، وفي هذا الجزء سنتناول الصعوبات والمعوقات التي يعتقد أكثر المراقبين أنها تحول دون تحقيق هذا النوع من الحكم في شمال وشمال شرق سوريا.
وذكرنا في الجزء الأول أن الحكم الذاتي هو عبارة عن نظام سياسي وإداري واقتصادي يحصل فيه إقليم أو أقاليم من دولة على صلاحيات واسعة لتدبير شؤونها بما في ذلك انتخاب الحاكم والتمثيل في مجلس منتخب يضمن مصالح الأقاليم على قدم المساواة . وبناءً على ذلك يكون الحكم الذاتي نقيض المركزية، حيث تحتاج الدول التي تمارسه إلى أن تتخلى سلطاتها المركزية عن جزء مهم من صلاحيات تدبير الأقاليم اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً لتتم ممارسته على المستوى المحلي .
وقبل الخوض بموضوع الصعوبات والمعوقات التي تعترض إقامة حكم ذاتي للأكراد في سوريا لابد من الاشارة الى أن معركة كوباني التي حسمها الأكراد لصالحهم قبل عدّة أشهر كانت بمثابة نقطة تحوّل أساسية بالنسبة لموقعهم على الخارطتين الداخلية والإقليمية، لأنها جعلتهم جزءاً من عملية واسعة قد تؤثر على مجمل التغيرات ليست في سوريا وحدها؛ بل في عموم المنطقة. لكن التطورات التي أعقبت هذه المعركة أظهرت في الوقت نفسه أن أكراد سوريا لا يتحكمون برسم مصيرهم السياسي نتيجة التجاذبات الإقليمية التي حددت مواقعهم وأدوراهم، ولهذا لم يحصلوا على دعم دولي لإقامة حكم ذاتي في مناطقهم بسبب الخلافات التي لازالت قائمة بين مختلف الأطراف المتصارعة في هذه المناطق من جهة، وما يرافق ذلك من تعقيدات تاريخية وجغرافية وجيوسياسية من جهة أخرى.
ولابد من الإشارة هنا أيضاً إلى أن قدرة وحدات الحماية الشعبية الكردية (YPG ) على منع عناصر داعش من السيطرة على مناطقهم، أعطت دفعاً معنوياً كبيراً لأكراد سوريا لمواجهة القلق الأمني الذي كانوا يعيشونه بشكل يومي منذ ظهور الجماعات الارهابية في هذا البلد قبل نحو أربع سنوات.
ولكن رغم هذا المكسب المهم والحيوي أفرزت الوقائع التي شهدتها مناطق شمال وشمال شرق سوريا العديد من المشاكل الموجودة أصلاً في الصف الكردي بسبب الخلافات الآيديولوجية بين الأحزاب الممثلة له لاسيما حزب الاتحاد الديمقراطي وأحزاب المجلس الوطني الكردي، ما أدى الى حصول شروخ واسعة بين الأكراد كادت أن تصل إلى حد الاقتتال الداخلي في كثير من الحالات، ما ولّد نوعاً من الشك بإمكانية إقامة حكم ذاتي لهذه الأقلية التي أكدت الاحداث أن قواتها لا يمكن أن تكون حصراً بيد حزب معين، خصوصاً أن التهديدات الارهابية تستهدفهم جميعاً وليست موجهة ضد فئة معينة.
بموازاة ذلك أدى استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي للأحزاب الكردية التي لا تعترف بنظام الكانتونات من المشاركة في حكم مناطقهم إلى حدوث جدل واسع حول مشروع الإدارة الذاتية، سيما لدى أحزاب المجلس الوطني الكردي الذي يتبنى مشروعاً فيدرالياً، بحيث يكون للمنطقة الكردية وضعها الخاص، بما يتناسب مع التشكيلة القومية والدينية لهذه المنطقة. وهذا المشروع يتقاطع في الحقيقة مع مشروع الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي في العديد من النقاط، إلا أن أوجه الخلافات تتركز حول كيفية التعاطي مع الوضع الراهن في المناطق الكردية وإنعدام الرضا الذي تكوّن لدى أوساط جماهير المجلس الوطني الكردي والتي تتهم الاتحاد الديمقراطي بالسعي للهيمنة على كافة مفاصل الحياة في هذه المناطق.
من جانب آخر تعتقد تركيا أن أي تجربة ناجحة بإقامة حكم ذاتي للأكراد في سوريا سيشكل عائقاً أمام طموحها في بسط نفوذها في العمق السوري وبالتالي العمق الإقليمي. أي أن المسألة بالنسبة لها ذات طابع جيوسياسي إقليمي وليست متعلقة بالأمن القومي التركي فقط كما تزعم، خصوصاً ان الاتحاد الديمقراطي يُعد من وجهة نظر أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، لأن معظم قيادييه الحاليين كانوا في السابق كوادر مهمة في صفوف حزب العمال، وهذا ما يؤرق أنقرة ويجعلها تسعى لإعطاء دور للأحزاب الكردية التي لا تشكل خطراً استراتيجياً على سياستها تجاه سوريا بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
وما يعانيه أكراد سوريا الآن من انشقاق هو نتيجة حتمية لسنوات طويلة من الاختلافات الأيديولوجية. وبالرغم من العامل القومي الذي يجمعهم فإن التناقضات السياسية لازالت تحول دون ترجمة هذا العامل إلى قوة موحدة على أرض الواقع.
من هنا يتبين مدى التعقيد بين أكراد سوريا، الأمر الذي يسهم في جعل موقفهم من الحكم الذاتي أكثر ضبابية، ويضعهم وجهاً لوجه أمام العديد من التساؤلات حول مدى قدرتهم على إقامة هذا النوع من الحكم. وبالتالي من الصعب على المراقب أن يحدد هوية كردية سوريّة بمعناها السياسي، لكن هذا لايقلل من أهمية الدور الكردي وضرورته كقوة قتالية في مواجهة الجماعات الارهابية لاسيما تنظيم (داعش).
وهناك مسألة مهمة أخرى لا تقل أهمية عن المعوقات السابقة تتمثل بالطبيعة الجغرافية للمناطق الكردية في سوريا وصعوبة إيصال النفط المستخرج من هذه المناطق إلى الأسواق العالمية، ناهيك عمّا يمكن أن يحصل من إعاقات في مسألة بيعه .
أمّا الموقف الدولي، لا سيما الأمريكي والأوروبي حيال منح أكراد سوريا حكماً ذاتياً، فيمكن وصفه هو الآخر بأنه غير مشجع بسبب تقاطع المصالح بين واشنطن وحلفائها الغربيين من جهة والدول الإقليمية من جهة أخرى.
من هنا يمكن القول أن مسألة إعلان حكم ذاتي لأكراد سوريا تبدو مستبعدة في الوقت الحاضر على أقل التقادير، بسبب عدم توافر الظروف المواتية لذلك داخلياً و إقليمياً و دولياً.
المصدر / الوقت