درس روسي في ثوابت التاريخ والجغرافيا
زيارة بوتين لطهران، بعد سبعين عاماً تقريباً على انسحاب آخر الجيوش الروسية من الأراضي الإيرانية، مناسبة ليقرأ المسؤولون الروس أحداث الحاضر والمستقبل، في ضوء أمثولات التاريخ وعبره.
ليس نحن من ينبش أشباح التاريخ اليوم، يقول مسؤول روسي رفيع. بل هم حكام أنقرة خصوصاً من يفعلون ذلك. يستعيدون قرناً كاملاً، كان يفترض أن يكون خاتمة لمآسي البشرية. كأننا اليوم على عتبة عودة الإمبراطوريات. علماً بأنّ مثل هذه الاستعادة لا يمكن أن تكون منطقية، ولا حتى متخيلة. تركيا سنة 1915 كانت على أبواب السقوط، وكان نظام جديد يقوم في المنطقة. هو نظام سايكس بيكو. كيانات مركبة في معظمها وحدود هشة وتقسيمات غير طبيعية ولا تاريخية. يومها لم يكن هناك سعودية أصلاً. وتفككت السلطنة. فكيف اليوم! لكن حتى في قراءة هذا المدى التاريخي، يظهر لنا أن روسيا كانت تتصرف دوماً وفقاً لثوابت واضحة في سياساتها الخارجية. هي كانت دوماً مع مراعاة أوضاع الأقليات في الشرق كما في كل العالم. منذ القرن الثامن عشر، سنة 1772، نزل الأسطول القيصري الروسي في خليج مار جرجس في بيروت. وكذلك في التاسع عشر، سنة 1840 كان أسطولنا قبالة بيروت مجدداً. لكننا دوماً كنا نعرف ثوابت التاريخ ونحترمها ولا نحاول القفز فوقها. حتى العاصمة الألمانية التاريخية، برلين، وصلنا إليها مرتين، في القرن الثامن عشر وسنة 1945، ثم خرجنا منها. باريس نفسها وصلنا إليها زمن نابليون وبعد اندحار هتلر، وخرجنا منها في المرتين أيضاً. لأننا ندرك معنى اللعب بثوابت التاريخ. في المقابل، ها هي شبه جزيرة القرم، لأنها أرض روسية، سلخها خروتشيف عن موسكو وأهداها إلى كييف في الخمسينيات، عادت لتنفجر أزمة وتفجر أزمات بعد ستين عاماً على تلك الخطوة المنتهكة لقواعد تاريخها. في السياق نفسه هي أوكرانيا كانت دوماً أرض هذا الصراع التاريخي، بين غربها وشرقها، وبين روسيا وبولونيا. وهو التاريخ يعلم كيف أن استقرارها دوماً كان هشاً نتيجة هذا التاريخ بالذات. من ينسى إعلان استقلالها لثمانية أيام فقط سنة 1918؟! هذه دروس التاريخ، ونحن نعرفها جيداً. ولأننا نعرفها لا نستسلم أبداً لما يعاكس منطق التاريخ والحق. لكن من دون مبالغة ولا أطماع. حتى في يالطا، تذكر تشرشل ذات لحظة أن أوكرانيا بحسب رأيه، جزء من بولونيا. فرد ستالين: وفرصوفيا ــ عاصمة بولونيا نفسها ــ كانت جزءاً من روسيا كذلك!
يبتسم المسؤول الروسي وهو يستعيد أمثولات التاريخ تلك، ليضيف: علماً أن الأمانة التاريخية تقتضي الاعتراف بأن تشرشل كان سياسياً قديراً وخبيراً. فهو من قال يوماً إن النظام الأميركي مثالي، شرط أن يؤدي إلى انتخاب رئيس أميركي عبقري! وهذا ما يظهر الفارق بين نظامنا ونظام واشنطن. نحن عدنا إلى القرم لهذه الأسباب بالذات. لكننا لا نذهب إلى غرينادا مثلاً ونجتاح دولة جزيرة، لأن بضعة شبان ثملين تورطوا في شجار في حانة! يفتح المسؤول الروسي هلالين، عند ذكر تشرشل وأميركا، ليقول: في أوروبا اليوم ثمة دولة قوية. هي ألمانيا. حتى فترة قليلة مضت، كنت أرى أنها الرايخ الرابع يقوم. لكن طبعاً على قاعدة القوة الاقتصادية والسياسية. أخشى أن تكون ميركل قد زرعت بذور تدميرها عبر سياسة اللجوء التي بدأتها. ليس هذا من قبيل العنصرية أو «الكزينوفوبيا». إطلاقاً. نحن في روسيا لدينا خليط حقيقي من الانتماءات. لدينا نحو عشرين مليون مسلم يعيشون في دولة روسيا الاتحادية. لهم كياناتهم الذاتية، كما هم مندمجون في باقي الجغرافيا الروسية. لدينا نحو 13 جمهورية إسلامية في روسيا، ولا مشكلة فيها ولا معها. المشكلة الوحيدة هي مع الإرهاب. في جذوره الفكرية والمالية والبشرية واللوجستية. وهي مشكلة عالمية، لا روسية. لذلك هو واجب العالم كله في مواجهتها. لأن قدرة الإرهاب على ضرب أي مكان في العالم كبيرة وغير محدودة. فالإرهابي أقوى من أي إجراءات محلية تقوم بها جهة واحدة أو دولة واحدة. يكفيه تجنيد شخص واحد في مركز الهدف الذي يعد لضربه. في شرم الشيخ بتنا نميل إلى الاستنتاج من المعلومات ومعطيات التحقيقات التي في حوزتنا، إلى أن القنبلة التي انفجرت في طائرتنا زرعت داخل المطار. دُسَّت بين الحقائب. ما يعني أن خرقاً أمنياً بسيطاً أدى إلى تلك الكارثة. عنصر أمني واحد، يمكن جهةً إرهابية أن تكون قد جندته بالمال أو بمصلحة ما أو بالاقتناع بفكر الإرهابيين، تمكن من ضرب إجراءات الحماية لدولة كاملة. لهذا حربنا على الإرهاب يجب أن تكون شاملة. ويجب أن تكون مستدامة حتى استئصال الإرهاب. لكن هذا لا يعني أن نقفز فوق دروس التاريخ، ولا أن نعبث بثوابت الأوطان. ومن لا يدرك ذلك، فلن يحصد إلا العواصف.
جان عزيز